التعليم هو جعْلُ غير العارف عارفا، والمجهول معلوما وغير الممكن ممكنا، بواسطة نقل الخبرات المتحصل عليها، إلى من ليست عنده هذه الخبرات، وهي من الكبير إلى الصغير، وقليلا ما تكون من الكبير إلى الأكبر منه .بهذا المفهوم العام للتعليم، والتعلم، أبْسُط الكلام عن مؤسسة تعليمية، لها من الأهمية في بناء المجتمع، القوي، المتكامل، الذي يُنْجدُ بعضه بعضا، ويُقلل من حاجته إلى غيره. هذه المؤسسة، هي مؤسسة التعليم المهني، التي لم تنلْ الرعاية الكاملة، من المجتمع، مُمثلا في سُلُطاته المخولة، منه، للتخطيط، والتوجيه، وتهيئة أسباب الوصول إلى الغاية من التعليم بمفهومه العام، بالتنفيذ. إن الاندفاع إلى التعليم العام برغبة جامحة ، رغم نبله حجب عنا القصد السليم، وإن بدا وكأن الأمر واضحة معالمه،لقد ركزنا على التعليم العام، ظنا منا أن هذه هي السبيل الموصلة إلى برّ الأمان، تحت شعار شعب متعلم لن يُسْتعبد مع ما لهذا الشعار من صحة وصدق، دون أن ندقق في الكيفية، ومجال تعليم أولادنا، إذ ليس كل الأبناء مُجهزون بقدرات واحدة لتلقي نفس التكوين، والذهاب معه بعيدا في تخصصات كثير منهم غيرمؤهل لها؛ بحكم تكوينه الذهني والنفسي، ورُبما حتى الوراثي. فكان حشر أغلب التلاميذ في مسار واحد، وكأننا نريد فك أ مّية القراءة والكتابة عن الأجيال، وإن وسعنا ذلك إلى مرحلة تعليم جامعي، حوّلناهُ إلى مدرسة عالية لمحو الأمية، وحين جدّ؛ الجدّ ، وشرعت البلادُ في البناء، ودخول الشركات الأجنبية، تبين لنا أن أغلب اليد العاملة لاتملك مهنا مناسبة، وكنا نزعم أن الأجانب إذا استثمروا في بلادنا، يجدون يدا عاملة مؤهلة، ولم نكن نعلم أن هذه اليد العاملة التي بدت لنا مهنية لا تصلح، حتى لقراءة الصحف اليومية، وانتشرت بيننا الدعوة إلى التعليم حسب سوق العمل، لكن دون تقديم رؤية جريئة، واضحة، تحدد الميدان الذي يُموّل هذه السوق، ألا وهو التعليم المهني، بمفهومه الواسع، الشامل، بحيث لا يأخذ التعليم العام الا الثلث من التلاميذ الذين يُكوّنون للالتحاق بالتخصصات الجامعية التي لا يمكن للتعليم المهني تكوينهم فيها، كالطب، والصيدلة، والهندسة، والميكانيكا، والجيولوجيا، والفيزياء والرياضيات، ومختلف علوم الأرض، والفلك بالإضافة الى الجغرافيا بمفهومها العلمي، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الإنسانية، كالأدب والتاريخ والصحافة والحقوق.... وهلمّ جرًا .ويبقى الثلثان، ليُوزعا، بين تعليم مهني وتعليم ديني تتولاه الدولة، بالرعاية والتوجيه حتى لا تحتوي جهات أخرى أبناءنا وتدفعهم إلى ما لا يخدم الوطن، تصليحا لخطئ وقع عندنا بإلغاء التعليم الأصلي، الأمر الذي نتج عنه احتواء غيرنا شبابنا. لا يمكن للتعليم المهني تقديم المنفعة المرجوة منه، الا إذا أُعطي الاعتبار اللازم له من قبل الدولة والمجتمع، ولا يتمُ هذا الاعتبار، إلا عند احساس الناس بفائدة تكوين أبنائهم في مهن ذات نوعية عالية، ومسح من أذهانهم ما علق بها عن هذا التعليم من الشوائب، التي رسمت صورة زاهية للتعليم العام،على حسابه، مع ما لهذا التعليم من ميزات تفوق التعليم العام، بالنسبة لمن لا يملكون المؤهلات التي توصلهم إلى تعليم جامعي؛ متخصص، وإن كنت أرى أن التعليم المهني يمكنه أن يذهب بصاحبه إلى أبعد مما يُظن به، إذا مُدد ت مراحله ليكون كما هو حال التعليم العام، أي يكون له مستوى جامعي خاص به، تُشرف عليه وزارة للتعليم العالي المهني، قائمة بذاتها. حال التعليم المهني عندنا: توسيع مفهوم التعليم المهني هو الذي يجْتذب إليه المتعلمين، بل قد يُزهّد الكثيرين من طالبي المنفعة؛ في الإقبال على التعليم العام، لما يكون للتعليم المهني من جاذبية نفعية في النفس، وحاجة معيشية يتقوى بها الفرد، والجماعة، داخل الوطن، وخارجه إذا دعت الظروف الى ذلك، ولنا في الدول التي اعتنت بهذا النوع من التعليم عبرة، ولنا في نقص اليد العاملة المؤهلة، عندنا ما يكفي لإيقاضنا من غفلتنا، وزعمنا أن ما نقدمه في تعليمنا المهني حاليا، كافي. إن التعليم المهني على ما هو عليه اليوم في بلادنا، يتميز بالنقص وضيق الرؤية، واحتباس المفهوم، وبعض الجمود في القائمين عليه. إن ترْكه حبيس اختصاصات محدودة، تنفر المقبلين على التمهين حتى لكأنها توحي بالهوان لا بالهناء، هناء العيش الكريم، بل الشعور أن من زُحْزح عن التعليم العام كأنه ألقي به من شاهق الى سحيق، هذه الصورة الكئيبة للتعليم المهني، مبعثها حصره في زاوية مُهْملٌ مكانُها بين أنماط السُّبُل المُؤدية إلى العيش الكريم، نتيجة غياب الإعلام التربوي، المُرغب الذي يحتاجُه المجتمع، وقد يدعي المدعون أن هذا الإعلام التربوي؛ موجود فعلا، والمدقق فيما يدعيه هؤلاء، يلاحظ كمًّا من الموظفين ناقصي الخبرة،( شهارة) ينتظرون سحب رواتبهم نهاية الشهر، دون أن يكون لوظيفتهم جدْوى وخيْرٌ للدولة أن تُجدول هذه الوظيفة ضمن مصروفات البطالة، من أن تنام على الأمل الزائف، بأن لها إعلاما تربويا، يوجه المجتمع الوجهة السليمة. التعليم المهني..اختصاص وهياكل: تعودنا على تسيير أنماط من الهياكل ورثنا أغلبها أو أخذنا بعض النماذج منها عن غيرنا دون أن نوجد لأنفسنا أنماطا، تساير واقعنا وظروفنا، ثم إن ما قمنا به من مراجعات؛ لما ورثناه، ولما استوردناه أوصلنا إلى الفشل، بفعل تدميرنا لكل ما هو سليم ولو كان قديما. إن إعادة النظر في التعليم المهني، وتوسيع مفهومه، ليشمل مجالات أرحب بات في حكم الواجب، وحتى بتسميات جديدة، وبرامج ذات جاذبية، نفعية، وامتداد يصل إلى حد تكوين عالي، في بعض التّخصُصات، تحت إشراف وزارة (وصية) مثل ما هو الحال مع وزارتي ؛ التربية، والتعليم العالي. الاختصاص والهياكل: 1 مدارس التعليم الفلاحي: هذه المدارس ينبغي أن تهدف إلى تعليم كل من له رغبة، وحاجة إلى اختصاص يدور في مجال هذا العالم الطبيعي، الحيوي، الرومانسي، الجميل. تُكوّن المنتسبين إليها في تخصص: 1 تقنيين في البيطرة ( المواشي، الطيور الداجنة وغير الداجنة، تربية النحل ومعرفة علاجه، الحيوانات الأليفة والبرية، مع معرفة الأمراض التي تُصيبها، والتي تنقلها إلى الإنسان). 2 تقنيين في الزراعة بمختلف أنواعها،وفق المستجدات العلمية الحديثة، لكل من طلب هذا الاختصاص ، كمساعد للفلاح، أو كفلاح متعلم. 3 خبراء متخصصين في مشاتل مختلف النبْتات، ومنحهم رخصا كمختصين، وقفا عليهم دون غيرهم، للعيش منها كتجارة ، ينفعون بها المحيط الفلاحي، ويُغنونه. 4 تزويد هذه المدارس بمخابر بحوث، وتجارب، ذات أهدافتكوينية ، وليست إكتشافية ، وإذا رُقيت، فلا بأس. 2 مدارس الصحة العامة: قد يستغرب المرء هذه الرؤية الى التعليم المهني ، وقد تعوّد على أن التكوين في الصحة ؛ هو من إختصاص وزارة الصحة ، هذا تنظيم قديم ، وإسناده برؤية غير مجدية ، ثم أن هذا التعليم،لا يصل الى درجة تخريج الأطباء، بل هو لأعوان، والا لماذا تخريج الأطباء، والصيادلة، من إختصاص وزارة غير وزارة الصحة؟ كذلك ينبغي أن يكون تكوين شبه الطبي من إختصاص وزارة التعليم المهني بالمفهوم الجديد . ويتم في هذه المدارس تكوين: 1 تقنيين في التمريض. 2 قابلات تقنيات؛ في الولادة،والوقاية من آثارها. 3 تقنيين، وتقنيات،في الوقاية من الأمراض،والأوبئة،الناتجة عن التلوث البيئي. والى ما هنالك من متطلبات الصحة، بمفهومها الواسع،أي أن التعليم المهني بالرؤية الجديدة ، يُكون الذين يرغبون في هذا النوع الإسعافي،وتتفرغ وزارة الصحة للعلاج وما كان في نطاقه ، ويُترك التعليم الى جهة تكون قادرة على تحمل أعْبائه. 3 مدارس التعليم الحرفي(كسر الحاء): هذا النوع من المدارس، يستقبل اليد العاملة من ذوي التكوين العلمي البسيط، من الذين توقفوا عند نهاية مرحلة ما قبل الثانوي.فتُفتح لهم أبواب الحرف: 1 حرف الصناعة التقليدية كلها تعلم في مدارس التكوين المهني وليس في مراكز تابعة لهيئات أخرى، كالسياحة مثلا، تجنبا لبعثرة الجهود، وتضييع الموروث. 2 الميكانيك وما يدخل تحت هذا العنوان، كتكوين ذا أبعاد علمية. 3 البناء وما يكون فيه من تخصُّصات ، نظرا لحاجة السوق الى هذا التكوين، الذي بان نقص سوقنا فيه بعد دخول الشركات. 4 الطلاء ،وكهرباء السيارات، والتلحيم بجميع أنواعه، كمهن. 5 النجارة العامة ، والنجارة الفنية. اذا تمكن القائمون على شؤون التعليم بمفهومه الشامل، من ضم كل ما يؤدي بالفردي الى اكتساب خبرة(مهنة) تمكنه من العيش الكريم،بين المجوعة التي يقاسمها الحياة مادامت المجموعة في حاجة الى خدمة ما لدي هذا الفرد ، المؤهل مهنيا، اذا تمكنوا من ضم كل ذلك في وزارة واحدة سيخففون عبأ التكوين عن هيأت أخرى،ويقضون على تبعثر سياسة التكوين،بجعل هذا التكوين متحكما فيه، ماديا،وماليا، وبشريا،وخاضعا للتقويم بكل يسر،دون الحاجة الى الرجوع الى هيئات متعددة،قد لا تقدم المعلومة دقيقة،لاختلاف مقاييس التقييم ،ومفاهيمه . لذا قد يكونوا الأمر مستغربا اذا أدرجت بعض المهن؛كانت مُوكلة الى وصايات تُعد الأقرب اليها من وزارة التعليم المهني ، ومن هذه المهن السياحة. 4 مدارس التعليم السياحي ما يكون في نطاق هذه المدارس : 1 الفندقة،وما يلزمها سواء سياحية كانت أغيرها 2 التكوين في فن التعامل السياحي، من النادل، إلى الفرّاش،وما بينهما. 3 الطبخ السياحي وفنه، ومعرفة الأذواق. 4 الوكالات ، والترويج السياحي،وفنهما. هذه العناصر ما هي الا عينة، فإذا أوكلنا هذه المهمة الى وزارة التعليم المهني، كان التعليم ليس حسب الحاجة،بل لإعداد المتكون (كسر الواو) ليعيش هنا،أوهناك. ومن وسائل العيش الكريم من يتخذ الفنون الجميلة ، وسيلة للعيش، والتعبير عما في نفسه، زيادة عمن يتخذونها هواية ، لذا أرى أن ضم الفنون الجميلة الى وزارة التعليم المهني فعلا مفيدا. 5 مدارس تعليم الفنون الجميلة 1 تعليم الرسم،والزخرفة العمرانية الداخلية،والخارجية. 2 نحت الأشكال الجميلة،وتزيين العمارات خارجيا. 3 تعليم الموسيقى،كفن،وحرفة،والمسرح كفن وحرفة. 4 تعليم فنون الطباعة، والإخراج، لما هو مقروء أو مسموع، أو مرئي، صحف ، كتب ، تلفزيون، إذاعة 5 الإخراج السينمائي ، والمسرحي، لأنها من الحرف. ان هذا النوع من التعليم المهني، ينبغي أن يكون موازيا للتعليم العام، أي يمتد ليكون فيه تعليم مهني عالي، في تخصصات ؛تسمح بالتوسع،والتعمق، وترفع صاحبها الى مستوى الشهادات المماثلة لشهادات التعليم الجامعي الحالي. وحتى لا يُعتبر هذا المنظور الى التعليم المهني، غريبا ، أحيل كل مستغرب على نظير هذا التعليم في بلد كتركيا. ويُسمى عندهم بالتعليم الفني، مع بعض الاختلاف في الرؤية. اذا أخذت بلادنا بهذه الفكرة،سوف تقلص الى حد بعيد،كثيرا من الجهد، والمال، والزمن، وتسيطر على التكوين عامة ، بحصره في وزارة وصية واحدة،وربما تذهب الى رؤية اشمل من هذه، يكون فيها خير البلاد، والعباد.