من يجلس إلى الطاهر بن عيشة لا يلبث أن يجد نفسه أمام مثقف موسوعي يتقن لغة السرد ويجيد فن المشافهة .. ومن يحادث هذا الرجل الثمانيني لا بد وان يتبين شهيته القوية للحكي واستدعاء الاحداث والوقائع والشهادات، يطرحها أمامك حية نابضة بكامل وهجها وتفاصيلها فكأنها وقعت قبل لحظة .. وما يدهش حقا لدى هذه الشخصية التي عركت التاريخ، وخاضت تجارب نضالية وثقافية وانسانية على مدى نصف قرن وأزيد تلك الذاكرة الفيلية التي تختزن ما يملأ مجلدات ومجلدات من المعلومات والتجارب والتفاصيل بأدق جزئياتها، سواء ما تعلق منها بالأشخاص، أو بالامكنة أو بالوقائع .. يبهرك حين يذكر لك مثلا أنه عندما ذهب مرة لزيارة كاتب ياسين في منزله ويصف لك مشهد ذاك اللقاء من لون السروال الذي يرتديه كاتب ياسين، وتلك العقدة التي كانت تتدلى من حافتيه السفليتين حتى لا يعلق بعجلات الدراجة التي كان يركبها، الى طبق الحريرة الذي تناوله معه .. مثل هذه القوة في ملاحظة الاشياء تعني ان هذا الرجل له من الحنكة والنباهة ما جعله يتفاعل مع المواقف والاشخاص الذين عايشهم بطريقة استثنائية ..طريقة مبدعة.. لحظة جلوسي الى المفكر الطاهر بن عيشة صاحب الجذور الفلسفية والايديولوجية الخاصة كنت على بينة من أن شريطا تسجيليا واحدا لا يكفي لاجراء حديث معه ولا دفترا واحدا يكفي لذا عززت عدتي التسجيلية بكومة من الاشرطة وحزمة من الاوراق.. علي ألاحق سيل الحقائق والمعلومات الذي سينهمر كالعادة من جعبة بن عيشة التي لا تنضب ابدا .. ولا تسمع أبدا بكلمة ''كفاية'' عندما يكون الصحفي في حضرة شخصية ملمة بالماضي والحاضر وعلى دراية بالمستقبل .. وعندما يشك في أسئلته إن هي ستلامس جديدا .. ستنكأ حدثا .. ستثير موقفا لديها .. ستعري حقيقة .. ستعرف شيئا لم يكتب .. ولم يعرف بعد.. ترتبك لحظته وتتوتر كلماته.. ولايبقى أمامه سوى المجازفة بإلقاء سؤال كهذا مثلا: ما سر بقاء ذاكرتك متوقدة الى هذه المرحلة من العمر ؟ وكأنه كان يتوقع السؤال وراح يتكلم عن الطبيعة والمكان .. الانسان جزء من الطبيعة يتأثر بها ويأخذ منها كذلك بالنسبة للمكان .. نأخذ منه كل الاشياء .. في جوابه رجع بنا مستمتعا الى مسقط رأسه بولاية الوادي وبالضبط في منطقة تدعى غمرة، وهي مكان كما اوضح الذي نزل فيه الغمامرة الذي يقول عنهم إنهم آخر فرسان غرناطة عندما كانت محاصرة ولازالت آثارهم لحد الان بقصر غرناطة، ومرتفع الغمامرة خير شاهد على ذلك .. ويجذبه خيط الذكريات ويحدثنا عن جدة أمه: اسمها دوقا وهذا ما يثبت أن أصولنا الاندلسية.. وفجأة سألني: هل شاهدت مقر البريد المركزي بالعاصمة؟ نعم أجبته مندهشة لغرابة السؤال .. فقال: تلك البناية الاعجوبة في هندستها وزخرفها بناها أحد الغمامرة يدعى عمر قاقا وهو العربي الوحيد الذي تحصل على جائزة أكاديمية العلوم الفرنسية من غمرة الاندلس.. لعل هذه الجذور اثرت في ثقافيا وعقليا ومنحتني رؤية اخرى وعلاقة اخرى مع الماضي ... وخشية ان يغوص اكثر في هذا الماضي الذي حرك فيه حنينا خاصا ممزوجا بشيء كالفخر .. سألته: وأنت في العقد الثامن ما الذي استخلصته بعد رحلة العمر هذه ؟ - أرى أن الاشقياء وهم الاغلبية .. والظلم يملأ الدنيا .. وما موقفك من ذلك .. هل حاولت فعل شيء؟ - أنا بقيت وفيا لمبادئي .. واخترت موقعي في المجتمع وحرصا مني على مصالح الجماهير رفضت مناصب المسؤولية التي اقترحت علي في المجلس الشعبي الوطني وكذلك حقائب وزارية .. ألم يكن ذلك ليساعدك علي تغييرالاشياء؟ - مثقف أو رجل واحد لا يمكن أن يقف ضد نظام من الاخطاء .. الاشياء مترابطة مع بعضها .. ثمة رؤية سياسية للثقافة الفن ..الادب ..الابداع ..المسرح في تغيير الاشياء ..؟ - الفن موقف .. على الفنان أن يلتصق بهموم الناس .. ويستوعب قضايا أمته .. ويعالج مصاعب اليومي .. وأرى أن الشعر أولى بذلك والمسرح ايضا .. والرواية ؟ الرواية في رأيي ليست اكثر من نزوات ذاتية وابداع ذاتي .. لا يسع كل الناس ولا يجس هموم العامة .. وأرى ان الشعر الان اكثر ازدهارا ولكنه ذاتي اكثر منه موقفا ومع ذلك فهو بخير .. اما المسرح عندنا فهو منعدم مع الاسف ويكاد يكون ميتا وإحياؤه يتطلب الرجوع الى مراحل تاريخية من عهد ارسطو.. لابد من البدء بدراسة المسرح اليوناني الى ما بعد النهضة وبعد سقوط غرناطة .. ودراسة مختلف المدارس المسرحية .. العملية تتطلب عملا كبيرا . معروف عنك أنك من المؤمنين بدور المسرح في تحريك وعي الشعوب وعليه خضت مجال التمثيل وكونت فرقة مسرحية قبل الاستقلال ؟ - نعم .. كان ذلك سنة 1945 حين أسست رفقة مجموعة من الطلبة في ولاية الوادي منهم جمال تورعة والطاهر البيني وأول مسرحية أنتجتها الفرقة كانت بعنوان بلال بن رباح من تأليف محمد العيد وركزنا فيها وقتها على الجانب النضالي والسياسي. بعدها انتقلت الى العاصمة وبادرت بتاسيس فرقة مسرحية عاصمية بمعية المكي شباح وأسميناها ''الكوكب التمثيلي الجزائري'' وانضمت إلينا مجموعة من الاسماء مثل بالبحري عظامو وعمه ابراهيم وصواق محمد الذي تولى تأليف أول مسرحية بعنوان ''الشاب السكير الجاهل'' وشاركت في تأدية الادوار عدة اسماء شابة منها ''فطيمة'' وهو الاسم الحقيقي للمطربة سلوى التي انضمت الى الفرقة وهي لا تتجاوز السادسة عشرة بعد موافقة أمها وكان ذلك سنة 1950 وهي أول ممثلة تنضم الى فرقة ''عصا موسى''، التي قدمت العديد من الاعمال الهادفة والناجحة في تلك الفترة . أنت من الناس الذين عرفوا كاتب ياسين عن قرب وكانت لك مواقف معه ؟ - عرفت كاتب ياسين عندما كان يعاني من ضائقة مالية ويمر بظروف عصيبة كابدها وحده، ولم يخبر بها أحدا لعزة نفسه وإبائه، ولكني عندما علمت بحالته قصدت وزارة الثقافة واتفقت مع مسؤوليها وعلى راسهم محمد الميلي على تعيينه مديرا لمسرح بلعباس مع تسليمه تسبيقة راتب وقبل المنصب. وآخر مرة التقيته قبيل سفره الى امريكا كي يتسلم جائزة عن عمله ''غبرة لفهامة'' وعند عودته عرج على فرنسا وبقي هناك الى أن وافته المنية. توفي بعد مصطفى كاتب بشهر واحد .. - نعم .. ولذلك أشك في أن وفاتهما لم تكن طبيعية .. تقصد أنها كانت بفعل فاعل ؟ - نعم وإلا ما معنى هذا التوقيت وهذا المكان بالذات. كانت لك فرصة ملاقاة أم كلثوم وفريد الاطرش وسامية جمال، كيف تم ذلك ؟ - في الحقيقة لم أندم على شيء مثلما ندمت عن الموعد الذي اخلفته مع أم كلثوم .. كيف ؟ - سافرت في مهمة قصيرة للقاهرة لتمثيل الجزائر في مؤتمر تضامني مع ثورة عدن سنة 1964 وجمعتني الظروف بصديق ابن أخ أم كلثوم وطلبت منه أن يرتب لي لقاء مع كوكب الشرق وتم ذلك الا اني في الاخير فضلت الوجه الالتزامي في مجلة الثورة والعمل التي كانت في انتظاري وفرطت في هكذا موعد .. وانا لم اندم على شيء مثلما ندمت عن تفريط في هكذا موعد .. كانت روح النضال وقتها غالبة على كل شيء . ولك حكاية أيضا مع فريد الاطرش ؟ - نعم .. كان ذلك سنة 1951 عندما زار الجزائر حاملا رسالة من محمد خيذر لحزب الشعب وقتها وقابلته في فندق أليتي ''السفير'' حاليا وكان بصحبته الراقصة سامية جمال وفرقته الموسيقية وتواعدت معه على اجراء مقابلة صحفية الا أن ذلك لم يحدث ايضا .. لماذا ؟ - لقد كان من المفروض أن يحيي فريد حفلته في قاعة سنيما دنيازاد وهي التي اعتادت احتضان الاحداث والحفلات الوطنية وكانت معروفة انها قاعة الوطنيين الا اننا تفاجأنا في آخر لحظة بتحويل الحفل المبرمج الى قاعة بن خلدون وقد كانت وقتها ملكا لشخصية يهودية تابعة للحكم الكولينيالي فما كان مني أنا ورفاقي الا ان انقلبنا على فريد وفرقته وحاصرناه مع جمع من المواطنين وقذفناهم بالطماطم والبيض. وماذا كان موقف فريد الأطرش ؟ طبعا استاء من تلك المحاصرة، وأوضح فيما بعد انه لجأ الى تلك القاعة حتى لا يتفطن المستعمر للمهمة السياسية الوطنية التي قدم من اجلها وهي في الاساس لمناصرة الثورة لجزائرية، الا ان الشعب لم يفهمه وأساء اليه .. وهذا ماجعله على ما أظن يسقط اسم الجزائر من أغنيته الشهيرة بساط الريح .. هل من شخصيات فنية أخرى عرفتها ؟ - عرفت أحمد فؤاد نجم ولا زلت أتواصل معه لحد الان وانا اعتبره شاعرا شعبيا من الدرجة الاولى ومدرسة التزام وفنان وهو يسميني: إمبراطور النميمة ويسمي نفسه ملك النميمة ويعني بذلك النقد طبعا، عرفت ايضا البياتي في فرنسا ووجدته خارج الشعر طفلا كبيرا.. قبل بدء الحوار قلت لي إنك أكملت دورة الحياة .. وإنك في المرحلة الاخيرة من العمر، هل ثمة حدث أو واقعة أو شيء ندمت عليه مثلا ..؟ - لم أندم على شيء .. ألم يخامرك شيء من الافلاس على المستوى الايديولوجي مثلا بعد كل ما حدث في العالم من انقلابات في موازين القوى وسيطرة نظام القطب الأوحد ؟ - إن كان ثمة ما أفخر به هو وفائي لمبادئي واصراري على نهجي النضالي ومؤازرتي للطبقة الكادحة .. وما طرأ على العالم من تغييرات سوف لن يعمر طويلا وسوف يتراجع ويتلاشى بقوة الاشياء ليبزغ شيء جديد . تقصد نظاما جديدا ؟ - نعم .. اشتراكية اخرى مثلا ؟ - نعم .. اشتراكية اخرى .. اشتراكية بلا أخطاء .. يعني أن الاولى لم تكن صحيحة ؟ - كانت اشتراكية مدغولة .. لم تكن صافية، وعليه سوف تبرز من جديد اشتراكية منقحة وخالية من كل الشوائب التي أفسدتها . ألم تندم على أن نضالك على مدى عمر كامل ذهب سدى ولم تجن ما كنت تأمل ؟ - قلت إن المهم عندي كان التزامي بمواقفي وتمسكي بالمبادئ التي آمنت بها ولازلت .. شيء واحد ندمت عليه هو اخلالي بموعد حظيت به مع أم كلثوم وتفريطي في لقاء العمر مع كوكب الشرق لأني فضلت الالتزام بعملي في مجلة الثورة والعمل ..