إن عمر بن عبد العزيز لم يذهب إلى زاوية ليقرأ الأوراد، بل قعد من فوره يملي الكتب إلى الأطراف ويضع البرنامج للحكومة الجديدة، وكان أول أمر أصدره، الأمر بفك الحصار عن القسطنطينية، ورجوع الجيش، فرجع بعدما قاسى الجند الإسلامي الويلات من هذا الحصار، ثم أصدر تشكيلات سريعة (كما يقال باصطلاح اليوم) في المناصب الكبرى، فعزل الأمراء الظلمة الطغاة، كان منهم والي إفريقية يزيد بن أبي مسلم العاتي الظالم، المتهم بحبس الناس وتعذيبهم وضربهم بلا وجه شرعي. وأسامة بن زيد التنوخي، رئيس المالية في مصر، وكان يقطع الأيدي ويشق البطون، ويرتكب الجرائم الكبار، حكم عليه بالحبس سنة في كل مركز من مراكز الدولة، أي بالسجن المؤبد، وعزل عمال الحجاج جميعا، وولى ناسا صالحين أهل مقدرة وأمانة وحزم. وكان حرس الخليفة، مؤلفا من ستمئة: ثلامئة حرسي، وثلامئة شرطي، فنهاهم أولا عن القيام له.. ثم قال (حسبك بالأجل حارسا)، وأمر بحل فرقة الحرس كلها، وأعطى الفقراء العاجزين عن العمل منهم رواتب تسريح دائمة، وعوض الباقين مالا، وكان قد مر عليه ليلتان بلا منام، فأغفى يستريح قليلا فدخل عليه ابنه عبد الملك وقال له: تنام ولا ترد المظالم؟ قال با بني: إنما هي ساعة فإذا قمت الظهر رددتها قال: ومن لك بأن تعيش إلى الظهر؟. فنهض لرد المظالم.. أتدرون ما هذه المظالم؟.. هي الأموال الهائلة.. والثروات العظيمة، التي تملكها أسرته، أخوته وحاشيته، لقد عزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون (من أين لك هذا)؟. وبدأ في ذلك بنفسه! فقد كان له عقارات، أيام أسلافه من الخلفاء، فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها، وأنها من أملاك الدولة. وهذا أيها السامعون هو المقياس الصحيح للدين، أن تبدأ بنفسك فتعظها، قبل أن تعظ الناس وإلا فما قيمة الوعظ، إن كان الواعظ لا يعظ نفسه أولا؟. إن أول ما ينبغي للمؤمن حين يقرأ قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) أن يكون مصدقا بذلك، موقنا به، وألا يخاف إن أقام الحق، أن يبقى هو وأولاده بلا طعام، فإ لم يفعل كان كاذبا، وما كان عمر بن عبد العزيز من الكاذبين. وأحصى أملاكه فإذا هي كلها من عطايا الخلفاء، ولم يجد إلا عينا في السويدان، كان استنبطها من عطائه، والعطاء يا سادة -رواتب عامة، تعطى من بيت المال للناس جميعا، نوع من الضمان الاجتماعي لم تصل إلى بعضه اليوم أرقى دول الغرب، وفكر في أولاده، هل تكفيهم غلة هذه العين، وهي مئة وخمسون دينارا في السنة فقط! ثم ذكر أن الرزاق هو الله، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك وما كان لغيرك لن تناله بقوتك. فنزل عنها كلها ومزق سجلاتها. وتوجه إلى أمراء البيت الأموي، فجمعهم وحاول أن يعظهم، ويخوفهم الله، وبين لهم أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله، والزارع في مزرعته، وأن ما بأيديهم من أموال جمعوها من حرام ليس لهم، وإنما هي لله، وأرادهم على ردها فأبوا. ودعاهم مرة أخرى إلى وليمة أعدها لهم، فتركهم حتى يبلغ منهم الجوع ثم قدم لهم عدسا وتمرا وبصلا، وطعاما من طعام الفقراء فأكلوا منه حتى إذا شبعوا، جاءهم بالطعام الطيب، فلم يستطيعوا أن ينالوا منه. قال: أرأيتم؟ فلم التقحم في النار من أجل أكلة وشربة؟! فلم يستجيبوا، فلما عجزت معهم أساليب اللين، عمد إلى الشدة، وأعلن أنه كل من كانت له مظلمة، أو عدا عليه أحد من هؤلاء فليتقدم بدعواه، وألف لذلك محكمة خاصة وبدأ يجردهم من هذه الثروات، التي أخذوها بغير وجهها، ويردها على أصحابها، أو على الخزانة الامة. ووسطوا له عمة له، كان يوقرها بنو أمية لسنها وشرفها. فكلمه، فقال لها: يا عمة، قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فترك الناس على نهر جار، فولي بعده رجل (يريد أبا بكر) فلم ينتقص منه شيئآ.. ثم ولي بعده رجل (يعني عمر) فلم ينقص منه شيئآ.. ثم ولي رجل فشق منه ساقية صغيرة، ثم لم يزل الناس يشقون السواقي حتى لم يبق منه شيء، وأيم الله لأسدن السواقي حتى أعيده كما كان. ودعا بجمر ودينار، فألقى الدينار، في الجمر حتى إذا احمر، أخذه بشيء وقربه من جلده. قائلا: يا عمة أما تشفقين على ابن أخيك أن يكوى بهذا يوم القيامة؟.. قالت: إذن لا تدع الناس يسبوهم. قال: ومن يسبهم؟ إنما يطالبونهم بحقوقهم. فخرجت فقالت: هذا ذنبكم، لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب؟ اصبروا فإنه لا يحيد.. وتجرأ عليه ابن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه كتابا شديد اللهجة، أشبه بإْعلان الثورة والمبارزة بالعصيان، فما كان من عمر، وهو اللين المتواضع إلا أن غضب لله، فانقلب أسدا كاسرا وقبض على ابن الوليد، وحاكمه محاكمة سريعة عادلة، كادت تودي به إلى سيف الجلاد، لولا أن تاب وأناب. وخضعوا جميعا، وردوا ما كان في أيديهم من الأموال.. واكتفوا بمرتباتهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة. ولكن عمر لم يكتف، وأمر بقطع هذه الرواتب، وإعطائهم عطاء أمثالهم، وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس. وعم الأمن، وهمدت الثورات، وشملت السعادة الناس. واختفت مظاهر البذخ الفاحش ومظاهر الفقر المدقع، وصارت هذه البلاد التي تمتد من فرنسا إلى الصين، كأنها مدرسة داخلية أو جمعية روحية، تعيش بالحب والود والإخلاص، وكانت كتبه ومنشوراته مناهج تهذيبية إصلاحية، فيها علم وهدى وإدارة وتنظيم. وبعد فمن هو عمر بن عبد العزيز، وكيف نشأ مثله في بني أمية.. وما كان بيت أمية بيت تقى ونسك؟ وما سيرته في نفسه وفي أهله؟ سأحدثكم عن هذا كله في الحلقة المقبلة إن شاء الله. (يتبع)