سمير عطا الله مثل القاهرة، كان المقهى في بيروت جامع - أو حاضن - الشعراء والأدباء والصحافيين والفنانين - ومن يهوى الفرجة عليهم. عندما كان وسط بيروت هو أيضاً ملتقاها، كانت طبقة الشعراء والغاوين تتوزع على بضعة مقاه، تمثل أيضاً أنواع و«درجات» هذه الطبقة، شهرة ومقاماً وماديات. وعندما انتقلت بيروت من الوسط الشعبي إلى شارع الحمراء البورجوازي (آنذاك) كان المقهى أول الواصلين. ولكن في صيغة جديدة تماماً: لا مناداة على فنجان القهوة «المزبوط» أو «على الريحة»، ولا باعة صحف «يؤجرون» الجرائد والمجلات. فئة جديدة من الشعراء الحديثين: يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، والممثلون الجدد، بعيداً عن «مسرح أبو العبد» على ساحة البرج. والصحافيون الذين كانت جرائدهم قد انتقلت أيضاً إلى الحمراء. صاحب المقهى كان أيضاً من فئة جديدة تماماً، خريج الجامعة الأميركية، وليس سوق التجار. كان منح الدبغي في «الهورس شو» عمدة التجمع الثقافي المَقهوي. وعندما انتقل بعد الحرب إلى الروشة ليفتح «السيتي كافيه» انتقل معه الجو الثقافي والفني والسياسي برمته. وعندما قرر التقاعد لم يعد للثقافة مقهى في بيروت. كان منح الدبغي «الناقد العام» يصغي الأصدقاء إلى أحكامه على ما يكتبون، ويطلبون رؤيته في السياسة وفي الناس وفي المستويات. ومن حياة المقهى أصبح خبيراً في علم الفراسة ومعرفة طباع الناس. لكنه كان يحرص على البقاء بعيداً عن الرواد، حافظاً بينه وبينهم خطاً أحمر غير مرئي، خوفاً من أن يختلط العمل بالشخصانيات. لا أدري عن بقية الزملاء. ولكن عندما أغلق منح الدبغي «السيتي كافيه» قبل سنوات، كان ذلك آخر عهدي بالمقهى في بيروت. وفيما كان «الهورس شو» مقهى التطلع إلى الشباب في الماضي. وفيما كنا «نداوم» في «الهورس شو» في المساء، كنت أذهب إلى «السيتي كافيه» مرة ظهر كل خميس للغداء مع الدكتور أمين الحافظ، ذلك النوع الماسي من الأصدقاء. وعندما غاب أمين لم أعد أمر إلا نادراً لإلقاء التحية على منح. قَلّ عدد الذين أعرفهم، وكثر عدد الذين لا أعرفهم. ساهم المقهى في صناعة الحركة الأدبية والسياسية في باريس. وأنت تعرف أسماء جميع الرواد من جان بول سارتر إلى ألبير كامو إلى المغنية الوجودية جولييت غريكو. وتعرف أسماء رواد مقهى «ريش» و«الفيشاوي»، لكنك لا تعرف أسماء أصحابها. في بيروت كان المقهى الثقافي منح الدبغي. تفقده العاصمة رائداً وأثراً.