عيش مواطنو ولاية البيّض، هذه الأيام، على وقع نشوة عابرة، بعد تصنيف الرئيس بوتفليقة، ولايتهم ''الهامشية '' ضمن ولايات ''مركزية '' تم إبعاد ولاّتها. لكن قطاعا من المواطنين يرى أن الأمر ظرفيّ وسرعان ما يتلاشى مفعوله؛ لأن عناصر إنتاج الفقر ورموز تحويل المواطنين، لمجرد رعية، مازالت تتحكم في رقاب السكان، باسم ولاءات مختلفة. أما صنّاع الأمل في هذه الولاية التاريخية، التي خرّجت مدارسها أسماء كبيرة، على غرار عالم الإجتماع المرحوم امحمد بوخبزة، قادرة على أن تخلق من رحم الظلم والحفرة، وكلّ أشكال التهميش، ولاية ''نافعة''. يرى الغارقون في التحاليل المجرّدة، التي تستعصي حتى على المتعلّمين من أبناء المنطقة، أن والي البيّض السابق، شكل ضد نفسه إجماعا على أنه لا يصلح لتسيير ولاية بحجم البيّض. ويرون أن عامة المواطنيين، سيستفيقون من وهم ''المهدي المنتظر'' على أساس أن التنمية وخلق الثروة، مثلما يقولون، مرتبطة بنظرة استراتيجية أكبر بكثير من ولايتهم، ومن تغيير ''موسى الحاج بالحاج موسى''. أما عامة المواطنين، فوصلوا لحالة من اليأس، لدرجة أنهم يقولون صراحة ''أنهم يريدون التغيير من أجل التغيير''. بوتفليقة دشّن سدا على الورق في التاسع سبتمبر 2004 دشّن رئيس الجمهورية، أمام الصحافة وكاميرات اليتيمة، سدّ بريزينة، الذي يتسع مثلما قيل للرئيس ل 120 مليون متر مكعب، وقيل له أيضا أن الإنجاز سيحوّل المنطقة لسلّة كبيرة للحبوب. لكن بعد ست سنوات عن هذا الكلام، وبعد 26 سنة على بداية إنجاز هذا السّد، ظلّت سلطات البيّض ومديرية الموارد المائية، ومن ورائها الوزارة تسوّف في إنتشاله من التوّحل قبل تشغيله. ولا يعرف سكان المنطقة مصير لجنة التحقيق، التي أعلن سلال عن تشكيلها في أفريل 2008، لمعرفة حقيقة تسرّب المياه من هذا السّد الذي تحوّل لمجرد حوض مائي ضخم والذي كان في الأصل موجّها لسقي آلاف الهكتارات من الحبوب. ورغم ضحامة فاتورة الإنجاز لا أحد من نواب الولاية طرح الأمر بالحدة، التي تعكس حجم الأموال، التي تتبخّر يوميا بهذا السّد. ولم يتوقّف التسيّب في هذه الولاية عند هذا الحد، فقد تبخر حلم الذين راهنوا على مطار مدينة البيّض، ليس في فك العزلة مثلما كانت تقول التقارير الرسمية. بل على الأقل أن تضغط سلطات الولاية لتحويل هذا المطار لنقطة انطلاق لحجّاج الجهة البعيدين عن مطارات العاصمة، وهران وبشار على التوالي 800 و400 و560 كلم. ويكاد، اليوم، سكان المنطقة يقتنعون أن هذا التجهيز العمومي كان بنيّة تسهيل مهمّة أمراء الخليج في رحلات الصيد، بعد أن أصبحت طائرات أمرائهم تحطّ من الحين للأخر. وبالمقابل، يرى منتخب من المجلس الشعبي الولائي، أن الحلّ يكمن في توفير وسائل النقل العمومية على غرار الإسراع في تهيئة طرق تيارت، أدرار وغرداية. وكذا التعجيل في أشعال خط السكّة الحديدية، الرابط بين ولايتي النعامة والبيّض. وهي الوسائل والتجهيزات التي يستعملها عامة المواطنين . ولم تتوقف ما يسميه المواطنون مشاريع ''البريستيج''؛ فالكثير من الطلبة الجامعيين لسنوات السبعينيات والثمانينيات وما بعدهما، الذين صاروا أولياء طلبة اليوم يتحدثون بنوع من الريبة عن المركز الجامعي، قيد الإنجاز قرب جبل إكسال، في المخرج الشرقي لمدينة البيّض. وقد بنى الكثير من المتعلّمين ريبتهم على أساس أن ''جامعات الدنيا والعالم ارتبطت بمدن منتجة للثروة''. ويضيف آخرون سألتهم ''الخبر'' أنهم يرفضون أن يكمل أبناؤهم دراستهم في ولاية داخلية، تفتقر لمكتبة جامعية وأشياء أخرى. خريف الرياضة وربيع النهب إلى وقت قريب، كانت المنطقة بحكم عوامل طبيعية مخزنا معروفا لدى المختصّين في العدو بكل تخصّصاته. حيث تخرّج منها رياضيون وصلوا لمستويات عالمية، خاصة بالرياضة المدرسية. أما الحديث عن كرة القدم في المدينة، التي رآى فيها النور قائد الفريق الوطني، سابقا، جمال مناد، فأصبح تناولها مرتبطا بالحنين والماضي لدى الكثير من الرياضيين. وقال بعض المعنيين ل''الخبر'' إن المديرية المعنية أصبحت مقصدا للمقاولين والتجار أكثر من الرياضيين. في ظلّ هذا الوضع تكشف زيارة للمركب الرياضي ''الرائد المجدوب ''، للذين لا يعرفون المدينة، أن هذا المركب، الذي وصفه الرئيس، قبل ست سنوات بالتحفة، يخيل للزائر أن عمر هذه ''الأطلال '' سنوات طويلة. أما مركبي بلديتي بوفطب والأبيض سيد الشيخ، فتوقفت الأشغال بهما، منذ خمس سنوات، بمبرر انعدام وسائل الإنجاز محليّا. ولا يتوقف الحديث اليوم عن الفضائح المتوالية بهذا القطاع، سواء عن مصير أموال الجمعيات، التي يلفها الغموض أو قضايا أخرى خرجت تفاصيلها للشارع المحلي. البيّض ثروتها مصدر فقرها يملك موّالو البيّض، رسميا، حوالي مليوني رأس من الماشية. وتقول الأرقام الرسمية أيضا إن 40 ألف رأس تدخل كل خميس السوق الأسبوعي لعاصمة الولاية. أما سوق بوفطب، الثاني ولائيا، فتقول المعلومات إن ما يفوق 30 ألف رأس تدخله. وهي تجمعات إقتصادية كبيرة تتداول فيها كتلة مالية ضخمة، خارج السلسلة الرسمية لأسباب تتعلق بالتعامل التقليدي والمتخلف لهذه الثروة. وهذا في غياب نظرة عصرية تجعل من هذه الثروة قاطرة حقيقية للتنمية المحلية. أما الغالبية من الملاك البسطاء لهذه الثروة فيعيشون وعائلاتهم وأطفالهم ظروفا قاسية. بل إن الكثير منهم من الرحل يحرمون أطفالهم من الدراسة. وهو ما جاء على لسان وزير التربية قبل أسبوعين عندما قال ل''الخبر'' أن البيّض من الولايات التي تسجل إنخفاضا مخيفا في مؤشرات تمدرس الأطفال. وهو التصريح الذي لم يحرك أي جهة برغم خطورته. بل إن المئات منهم تحوّلوا لفقراء يعيشون على أعتاب كبريات مدن الولاية كبوقطب. حيث يتشكل أكبر ''محتشد'' للخيم. ثلاثة أرباعها من البلاستيك المسترجع. ولا يختلف الأمر عند النازحين من القرى الأخرى بحي أولاد يحي بعاصمة الولاية. حيث يحلم العديد منهم برقم في قوائم الشبكة الإجتماعي. ولم يعد سرّا في البيّض أن سنوات الجفاف والفقر بالجهة تكاد تفرغ بلديات كاملة من سكانها على غرار بلديات الشقيق، البنود المحرّة وبلديات أخرى كانت مصدرا للثروة الحيوانية بكل أشكالها. أخطر من ذالك فإن برنامج الدعم الفلاحي أغرى الكثير من مربي الماشية للتحول لفلاحين، فإذا بهم يفقدون طابعهم الإجتماعي والإقتصادي. وأصبح من العادي معاينة أطلال المرشات وأجهزة السقي والتقطير والأحواض المائية في محاور الطرق الرئيسية، تحت أكوام رمال المناطق السهبية الموجهة أصلا للرعي. أما توزيع الكهرباء والبناءات الريفية، فإن تحقيقا بسيطا يكشف خلفيات الموالاة لهذه الجهة من تلك. وفي ظل هذا الوضع أضاعت المنطقة، حوالي سبعين بالمائة من غطاء الحلفاء الواقي من التصحّر. ويرى مختص من مديرية الفلاحة لولاية البيّض، أن عشرين ولاية سهبية في حاجة لوصاية مركزية تهتمّ بالقطاع، بدل مسؤولين ينحدرون من مناطق معروفة بتربية النحل أو زراعة النخيل أو السمك؛ وهي رسالة واضحة عن جهل الوصاية لعوالم تربية المواشي، المهدّدة فعلا بتناقص المربين المحترفين. ثروة أخرى منسية لا يمكن لزائر واحة بريزينة أن يتمالك نفسه، وهو يقف على العشرات بل المئات من أشجار النخيل، المتهاوية عطشا، على بعد أمتار من شبكة سقي يموّلها سد بريزينة. أما أشجار أخرى فتم تحويلها لسياج بعض المنازل والمحيطات البسيطة. فيما تظهر للعيان ''حروق'' متعمّدة لبقايا ''سيقان'' أخرى وسط أكوام من بقايا الردوم والنفايات. ويظهر، بشكل جليّ، على النخيل الباقي من خلال الألوان، التي أخذها على أن نهايته قريبة، رغم أن بعضها يتشبث بالحياة، وبقي واقفا، رغم المياه المتسرّبة القريبة من جذعه. ولم يجد مرافقي ما يقول غير إن ما يحدث لواحة بريزينة، التي كانت جميلة، لا تقع وسط مواطنين يعرفون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ''من كانت في يده فسيلة وحانت الساعة فليغرسها''. وأعاد مواطن من المنطقة مبرّر الوضع الكارثي لهذه الواحة، التي كانت مقصد السوّاح، سنوات السبعينيات، من القرن الماضي، لقضايا تتعلّق بالتوريث وأمور أخرى أقبح من الذنب. أما وضعية القصور ذات المنبت البربري، فليست أحسن حالا. فقصر بلدية بوسمغون، الذي يجمع قيمتين الأولى تتعلّق بمحافظة سكانه على لغة أمهاتهم. وثانيا فيكاد الكثير من الجزائريين، لا يعرفون أن قصر بوسمغون المرمم في جزئه الكبير، مازال يحتفظ بخلوة سيدي أحمد التيجاني، حيث مولد الطريقة التيجانية، التي يعشقها ملايين المريدين عبر العالم. ويتمنى الكثيرون من أبناء بلدية الشلالة، القريبة من بوسمغون، أن يحافظ سكان المنطقة على ما تبقّى من بربريتهم غير الملوثة بالسياسة، قبل أن تندثر بكل قيمها الجميلة. ولا يكاد المرء ممّن يعرفون المنطقة تاريخيا أن يصدقوا أن الكثير من قيم وطقوس سيد الشيخ في عاصمته الأبيض سيد الشيخ بدأت تترك مكانها لسلوكات غريبة لا علاقة لها بطقوس الركب ورائحته الجميلة. بل إن الكثير من العادات بدأت تزول، على غرار لحن القراءات الجميلة لقصيدة سيد الشيخ الموسومة بالياقوت، هذه القصيدة التي ''تسيل'' بالرؤية وصور التصوّف الرائعة. أما بعاصمة الولاية، فقد أصبح من النادر، أن تجد المدينة القديمة، بأشجارها الكثيفة ومواقع سجون ومراكز التعذيب. ولم يسلم من المسخ حتى مدارس المدينة القديمة. حيث تعرّضت للنهب المبرمج أو المسح النهائي. كما كان مصير كنيسة وسط المدينة. وأنشأ المتألّمون من هذا الوضع بكائيات باسم منابر على الشبكة العنكبوتية، يعيشون نوعا من النوستالجيا الغريبة. أما مجموعة من المثقفين فرفضوا أن يتركوا الظلمة، ويحاولون أن يشعلوا شمعة تساهم في إعادة الإشعاع الثقافي لمدينة البيّض التي زارتها غالبية الأسماء الكبيرة العقود الماضية، في مهراجانات متخص؟صة في مختلف أشكال المعرفة من التراث الشعبي إلى الفلسفة.