مساعدية استغل يتمنا وأقحمنا في المعهد عنوة فكنا حيوانات داخله وأميرات خارجه كشف عدد من قدامى راقصات البالي الوطني الجزائري، عن واقع مأساوي بدأ باستغلال يُتمهن وإلحاقهن، عُنوة، بمعهد الفنون الدراميّة في طفولتهن، وانتهى بالتهميش ومنحة التقاعد الضئيلة في شيخوختهن. التقت ''الخبر'' بهن، فروين تجاربهن خلال سنوات مثّلن فيها الجزائر في كبريات المسارح العالمية، في وقت لم يجدن في وطنهن غير الإقصاء ونظرة الاحتقار، وهو واقع لا يختلف كثيرا في سوداويته عمّا يعيشه أيضا الجيل الجديد، الذي خطف الأضواء قبل أشهر بقضية الطلبة الهاربين إلى كندا.. هن اليوم يطالبن ب''ردّ الاعتبار'' وتحسين ظروفهن المعيشية، ملوّحات بخيار اللجوء إلى الشارع للاحتجاج ضدّ وزارة الثقافة. عبر شارع بلوزداد في حيّ بلكور الشعبي بوسط العاصمة، تمضي شهلة إلى قاعة خاصّة لتمارس تمارين الرقص الكوريغرافي، ليس تحضيرا لحفل تُقيمه قريبا، بل لأنّها لا تستطيع الابتعاد عن هذا الفن الذي بدأته في ال17 من عمرها، رغم أنّها طُردت من البالي الوطني، منذ قرابة سبعة أشهر. العودة إلى ''الجحيم'' شهلة بوحال هي نفسها ''حوريّة''، كما قدّمتها ''الخبر'' لقرائها، بُعيد عودتها في نوفمبر الماضي من كندا؛ حيث قرّر ثمانية من زملائها ''الحرفة'' وطلب اللجوء الاجتماعي. لكن شهلة، اليوم، لا تبدو سعيدة بخيارها، بعد المصير الذي واجهته إثر عودتها، وهي تعترف بأن الجميع يلومها ويسألها لم فضّلت العودة إلى الجزائر بدل البقاء في كندا، لتكون النتيجة خسارتها الاثنين معا، حيث تقول متحسّرة: ''لو عرفت بأنّني سألقى هذه المعاملة، لبقيت في مونتريال، كما فعل زملائي الذين تحصّلوا على مسكن ومنحة بطالة تُقدّر ب700 دولار في الشهر. فقد طُردت من عملي بطريقة مهينة.. أُوقف أجري ولم يُرسل لي قرار توقيفي، بل طلبوا منّي إرجاع بعض الإكسسوارات التافهة التي أخذتها معي. كما لم يكلّف أحدٌ نفسه عناء استقبالي، وكلّ محاولاتي للالتقاء بمديرة البالي الجديدة باءت بالفشل''. وتستعيد شهلة ظروف العمل ''القاسية'' في البالي الوطني، والتي كانت الدافع الرئيس لهروب زملائها، قائلة: ''كنّا مطالبين بالحضور اليومي إلى مقرّ العمل، من الساعة التاسعة صباحا إلى الثالثة مساء. وكثيرا ما كنّا نكتفي بالسندويتشات طعاما لنا. وكلّ هذا مقابل أجر زهيد لا يتجاوز 18 ألف دينار''. مضيفة: ''في رمضان كنت أبقى في العمل حتى الواحدة صباحًا، دون مراعاة أن لي عائلة. باختصار، هم يعاملون الراقصة كما لو أنّها جاءت من الكباريه''. إنها نظرة الاحتقار ذاتها التي تطارد راقصات البالي في مجتمع يعتبر فن الرقص التعبيري عيبا، ويسمّي الراقصة الكوريغرافيّة ''شطّاحة''. نظرة وعلى قسوتها، تتفهّمها شهلة، بل وتبرّرها قائلة: ''كيف ينظر الناس إلى فتاة تدخل البيت في منتصف الليل، وترقص في شوارع السكوار وباب الواد؟''، في إشارة منها إلى الحفل الاستعراضي الذي شاركت فيه، خلال افتتاح المهرجان الثقافي الإفريقي الثاني بالعاصمة، في صيف .2009 مضيفة: ''ضربتُ بحجر على رأسي في أحد الأحياء الشعبيّة ذات مرّة، بعد أن شاهدوني أرقص في التلفزيون الجزائري''. وتطالب شهلة الجهات الوصيّة بردّ الاعتبار وإعادتها إلى عملها، مذكّرة وزيرة الثقافة خليدة تومي بوعدها للطلبة الهاربين بأنهم سيواصلون عملهم بشكل طبيعي، ولن يلاحقوا إن عادوا إلى أرض الوطن. قبل أن تردف قائلة: ''من الجيّد أنّهم لم يعودوا، وإلا لواجهوا المصير ذاته. ولذلك أقول لهم: يعطيكم الصحّة''. تمثّل شهلة وزملاؤها الشباب، الجيل الجديد من الراقصين الكوريغرافيين الجزائريين. فماذا عن الجيل الأوّل من طلبة البالي الوطني؟ أصل الحكاية (مبروكة. و) واحدة من أولى الراقصات الكوريغرافيات اللواتي التحقن بالبالي الوطني. وبعد سنوات من العمل، التي امتزجت فيها مرارة المعاناة بحلاوة النجاحات، تقول إنّها وجدت نفسها وزملاءها على الهامش. تعود مبروكة بذاكرتها أربعين سنة إلى الوراء، لتستحضر ذكريات التحاقها بالمعهد العالي للفنون الدراميّة ببرج الكيفان في العاصمة سنة .1967 وكانت حينها نزيلة بمركز أبناء الشهداء بمدينة سطيف، رفقة العشرات من الأطفال الأيتام، الذين تكفّلت الدولة بهم بعد الاستقلال. لكن الدولة الجزائرية لم تجد غير هؤلاء الأيتام لإدخالهم إلى البالي، بعد سنتين من فتح المعهد. والسر، حسب مبروكة، يكمن في أن المجتمع الجزائري في ذلك الوقت كان يعتبر الرقص الكوريغرافي عيبا وخروجا عن التقاليد، ما يعني رفض غالبيّة العائلات تعلّم أبنائها هذا الفن. وتضيف: ''كانوا بحاجة إلى فتيات لفرع البالي. وبما أننا كنّا أيتاما ودون آباء يقولون لا، فقد أخذونا دون استشارتنا. أدخلونا إلى المعهد عنوة، وهذه هي الحقيقة التي لا يريدون الاعتراف بها''. تروي مبروكة تفاصيل تلك الرحلة قائلة: ''كنّا ستّين أو سبعين طفلا، جاؤوا بنا من مختلف مراكز أبناء الشهداء الموجودة على المستوى الوطني، في وسائل نقل لا تصلح حتّى للحيوانات، وتحت حراسة مشدّدة، كما لو كنّا معتقلين، حتّى لا نتمكّن من الفرار. وبعد خضوعنا للاختبارات، تمّ اختيار عدد منّا، بينما أُعيد الآخرون من حيث جاؤوا''. قبل أن تستطرد: ''في ذلك الوقت لم يكن الرقص بريستيجا كما هو اليوم، وإلا لما كنّا لنحظى به، بالتّأكيد''. من جهتها، تسرد (فوزية. ب) التي التحقت بالبالي في السنة ذاتها وبالطريقة نفسها، تجربتها مع البالي، التي بدأت منذ نعومة أظافرها قائلة: ''عشنا طفولة مليئة بالشقاء. عوملنا معاملة قاسية؛ فقد كنّا نبيت للبرد والجوع أحيانا.. كنّا نضطرّ لتغيير ملابسنا للصعود إلى المنصّة، في برد قارس حتى تتلوّن أجسامنا. وفي المقابل، كنا نُعامل كالأميرات في الخارج''. تسكت برهة، ثم تضيف: ''لا تستغرب! كنا جميلات وفي مقتبل العمر.. كنّا نجمات حقيقيّات''. في المعهد، تعلّمت مبروكة وفوزيّة وزميلاتهما الرقص والموسيقى واللغة العربية، إلى جانب المادّة الأساسيّة المتمثلة في الرقص التعبيري الذي سيصبح لاحقا مهنتهن التي ستصنع منهن نجمات يُفرش لهن السجّاد الأحمر في أكبر المسارح العالمية.. كما سيصبح، أيضا، مصدرا للمتاعب في مجتمع لم يغيّر نظرته لهذا الفن. تصف فوزية التي أسست لاحقا أسرة وأصبحت جارة لمبروكة، حجم المعاناة النفسية التي عاشتها وأبناؤهما بسبب هذه المهنة، قائلة إنها كانت تخفي مهنتها عن جيرانها حتّى تتجنّب الغمز واللمز. كما تستذكر حادثة واحدة هي غيض من فيض تلك المعاناة: ''ذات مرّة، سألت معلّمة ابنينا باستهزاء قائلة: من منكما أمّه ترقص أفضل من الأخرى؟ وفي المساء، وجدته يسألني: أمّي لماذا اخترت هذه المهنة؟ فما كان منّي إلا أن أجيبه: لم أخترها بمحض إرادتي، صحيح أنّي أحببتها في ما بعد، وأصبحت جزءا من حياتي، لكني لم أخترها البتّة''. وتقول مبروكة إن محمد الشريف مساعدية أبدى في لقاء جمعه بهن، حين كان على رأس حزب جبهة التحرير الوطني، ندمه على قرار إلحاقهن بالمعهد، واعترف لهن بأنه وقّعه بيده. مضيفة: ''منحنا سكنات، ربّما ليكفّر عن ذنبه ويخفّف من تأنيب ضميره''. سيّدة المقام في روايته ''سيّدة المقام''، يقدّم واسيني لعرج حكاية راقصة بالي اسمها ''مريم''، تكافح تطرّف الحركات الأصولية من جهة ونظرة المجتمع القاسية من جهة ثانية، من أجل إقامة حفلتها الموسيقية، راسما صورة مأساوية لمجتمع يرزح تحت النار، دون أن يفقد رغبته في الحياة. عثرنا على ''مريم'' خارج رواية واسيني لعرج، باسم وتفاصيل مختلفة.. فتيحة غاسول ''سيّدة مقام'' أخرى عانت الأمرّين خلال مشوارها الطويل مع الرقص الكوريغرافي الذي بدأت حكايتها معه منذ التحاقها بالمعهد العالي للفنون الدرامية العام 1965، أي سنة تأسيسه على يد الراحل كاتب ياسين. ترأس فتيحة غاسول تعاونية خاصة للرقص الكوريغرافي، وقد تركت وراءها تلك النظرة القاسية التي طاردتها طويلا والسنوات المريرة التي كانت تنتقل فيها رفقة زميلاتها بين المدن والقرى، حيث هُدّدت بعضهن بالقتل إن لم ''يتُبن'' عن الرقص، ووقفت أخريات على مجازر مريعة خلال تنقلاتهن. أما ما وجدته أمامها فلم يكن غير التهميش والإقصاء، ومنحة تقاعد لا تكفي لسدّ أبسط متطلّبات الحياة. تقول فتيحة بنبرة من الأسى: ''نحن من فتح معهد برج الكيفان. تعلّمنا الرقص ومثّلنا الجزائر أحسن تمثيل في المحافل الدوليّة، وفزنا بالمراتب الأولى أمام روّاد البالي في العالم. لكن بعد 35 سنة من العطاء سقينا فيها قاعات الدنيا بعرقنا، خرجنا من الباب الضيّق، بمنحة لا تتعدّى 13 ألف دينار''. وتضيف المتحدّثة: ''ما يحزّ في نفوسنا هو تهميشنا من وزارة الثقافة التي لم تلتفت إلينا يوما، ولم تفكّر حتّى في تكريمنا''، ملقية باللوم على وزيرة الثقافة خليدة تومي، التي اتّهمتها ب''تهميش قدامى البالي الوطني، الذين لم يبق منهم اليوم إلا ستة أو سبعة أشخاص فقط، يعيشون ظروفا قاسية، وذلك في الوقت الذي تكرّم أشخاصا لم يعطوا للجزائر شيئا.. ولو أعطي لنا ربع ما أخذه هؤلاء من مال، لقدّمنا أحسن ممّا قدّموه بكثير.. هي تكرّم بولقرع الذي كان في أوروبا خلال العشرية السوداء، فيما كنا نعمل في بلدنا ونواجه الموت ونرسم الابتسامة على وجوه الجزائريين، وتكرّم كركلاّ ولا تكرّم الذين كانوا أول من دخل المسارح العالمية العريقة.. حينها كنّا نقارن مع عمالقة أوروبا وروسيا، في وقت لم يكن العرب يعرفون شيئا اسمه بالي''. وتواصل فتيحة الحديث عما تعتبره تهميشا لجيلها: ''لم نُدع لتظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، ولا لحضور تكريم أستاذنا البلغاري آبراشاف.. كرّمنا مرّة واحدة فقط، حين منحتنا الوزيرة عشرة ملايين سنتيم في حفل كرّم فيه من هب ودب.. الحقيقة أنها إهانة وليست تكريما''. تعود فتيحة إلى الماضي لتقول: ''كنا نرافق الرئيس الراحل هواري بومدين في معظم أسفاره إلى الخارج. وحين نعرف أنه مسافر كنا نجهز أنفسنا بشكل آلي، لأننا نعلم أننا سنرافقه.. أذكر أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة أعجب بعرض ''تندوف''، وعبّر لنا عن ذلك، حين أقمناه سنة .''1971 ثم تردف: ''من المؤكّد أن بوتفليقة لا يعرف أننا خرجنا من البالي بمنحة مخزية. ولا أتصوّر أنه يقبل بهذا الأمر''. قبل أن تختتم حديثها بهذه العبارة المقتضبة: ''إنها قضية كرامة وليست قضية مال''. أمنية أخيرة تواصل شهلة إجراء تمارينها في قاعة خاصّة، فالحفل الكوريغرافي الذي لن يأتي قريبا، قد يأتي يوما، مادام أملها بالعودة إلى البالي الوطني مازال قائما، تماما كما هو بالنسبة لفتيحة وزميلاتها من الجيل الأوّل، اللواتي مازلن ينتظرن إنصافهنّ واستعادة ما يعتبرنه حقّا مشروعًا، قبل اللجوء إلى الخيار الأخير المتمثّل في الشارع، للاحتجاج كبقيّة فئات المجتمع.. أمل إن تحقّق، قد يجعل محمد شريف مساعدية ومصطفى كاتب يرتاحان في قبريهما.