الأمة باتت في خطر والبلد ينحرف على وقع تأثير تراكم عدد من الآفات والأمراض التي تتغذى ذاتيا فيما بينها، ما ينذر بحتمية الانفجار الاجتماعي وإحلال العنف كحل وحيد لتسوية النزاعات بين الأفراد ومجموعات الأفراد وبين مجموعات الأفراد والسلطة. بعد دراسة تجارب الجزائر ودول أمريكا اللاتينية وأوروبا الجنوبية (إسبانيا والبرتغال واليونان)، إضافة إلى أوروبا الشرقية وآسيا، يمكننا استخلاص ثلاث فرضيات عمل موثوق بها: (أ) يعمل النظام الجزائري على تدمير نفسه بنفسه؛ إلا أن سيادة الريع تجعل مسار الانحراف بطيئا. وبفعل هذه الوتيرة البطيئة فإن الانهيار الذاتي للنظام يختزل في طياته أيضا تحطيما للمجتمع بأسره بفعل تفاعل مزيج من الآفات هي: الفقر، البطالة لدى الشباب والرشوة وفقدان الأخلاق الجماعية. إن فقدان الأخلاق الجماعية يعني تخلي الجزائر عن أثمن قيمها الإنسانية، وبمعنى آخر تعميم روح اللامواطنة واختزال العنف باطنيا لتدخل في تخلف حضاري شامل، واستشراء النهب والفساد كوسيلة عادية للتعاملات اليومية. أما انتشار وتعميم الفساد في كافة قطاعات النشاط، فإنه أضحى توجها متوقعا يؤدي إلى تبذير الموارد الوطنية وخاصة هجرة الرأسمال البشري نحو الخارج والاستغلال غير العقلاني للمحروقات. لقد بدأ هذا التوجه بالرشوة البسيطة على مستوى البيروقراطيين وصغار الموظفين، ليتوسع نطاقها ومداها إلى الرشوة الكبيرة التي تجلت في الفضائح المالية لدى إبرام العقود الخاصة بإنجاز مشاريع البنى التحتية والهياكل القاعدية وشراء المعدات والتجهيزات الجماعية والحصول على القروض البنكية. ليبرز على مسرح الأحداث المسؤولون السامون و''الأغنياء الجدد''، الراغبون في مقايضة ثرواتهم التي حصلوا عليها بطرق غير مشروعة ببقاء السلطة بين أيديهم. فالوصول إلى السلطة في مثل هذه الأنظمة هو الوسيلة الأنجع للثراء اليوم وغدا، وهنا يتم الاستحواذ على الدولة. أما الفقر فمعناه قلة توفر الفرص لتوظيف قوة العمل والدراسة والمعرفة لضمان دخل محترم ومقبول. كما نعني بالفقر أيضا عدم القدرة على الالتحاق بالمدرسة وعدم الاستفادة من العلاج. كذلك فقدان الأمن أمام أعمال العنف والصدمات الاقتصادية أو النكبات والكوارث الطبيعية. وهو أخيرا الصوت الخافت غير المؤثر وانعدام القدرة والسلطة للتأثير على الحوارات والمناقشات وفي مسار اتخاذ القرارات وفي توزيع الموارد ومراقبتها. (ب) من جانب آخر، يمكن التأكيد على أن التغيير السلمي المنشود لن يأتي من داخل النظام أو من المؤسسات الرسمية التي تبقى في مجملها خاضعة لرقابة السلطة القائمة ''برلمان، أحزاب سياسية للتحالف أو المعارضة'' ولا حتى من المجتمع المدني، كما تم تنظيمه وصياغته من قبل السلطة ''جمعيات تدور في فلك هذه الأخيرة وحولت إلى توابع وبيادق خلال المناسبات الانتخابية''، ولن يأتي بنفس القدر من خلال الرزنامة التي تضعها الحكومة الحالية ''انتخابات، استفتاء، مجالس خاصة''، التغيير لن يكون مصدره الداخل إلا في ظروف استثنائية تجتمع خلالها ثلاثة عوامل مؤثرة وحاسمة: أولا ضغط قوي ومتزايد من المجتمع بشرط أن يكون دائما. ثانيا إرساء تحالف استراتيجي لقوى التغيير وثالثا وقوع حادث كفتيل محرك للأحداث. (ج) ستسجل العشرية 20102020 انحراف الدولة الجزائرية من وضعها الحالي المنهار إلى حالة جديدة من الانحطاط والتفسخ، دولة فوضوية غير قابلة للحكم. وأمام هذه القناعة يفرض علينا بكل وضوح أحد الخيارين: ترك الأمور كما هي وتحمل التغيير بكل مخاطره. وإما الإشراف على إنجاز هذا التغيير في هدوء وسكينة من أجل توجيه البلاد إلى السير في طريق الرقي والرخاء. لقد اخترنا حل التعبئة السلمية من أجل التغيير. ولإنجاح التغيير يجب توفير ثلاثة عوامل رئيسية: ضغط شعبي قوي متزايد ومستمر على السلطة الحاكمة القائمة من أجل تغيير نظام الحكم وليس الحكام فقط. إقامة تحالف استراتيجي بين قوى التغيير لتشكل قوة دائمة للاقتراح والتفاوض وتجسيد التغيير. حادث كفتيل لتحريك الأحداث المؤدية للتغيير. تسمح التجربتان التونسية والمصرية في بداية 2011 باستخلاص عدد من النتائج التي تؤدي إلى رسم جملة من الفرضيات الصحيحة، والتي تسهل بدورها تجميع العوامل الأساسية للتغيير. هناك أربعة دروس تُحدد أربع فرضيات عمل. 1 تجمع مواطنين بجد ومثابرة في موقع استراتيجي من المدينة، دون أي زعماء ودون برنامج سياسي مسطر مسبقا؛ في مواجهة قوات قمع بأعداد كبيرة. هؤلاء المواطنون قادرون على إجبار رموز النظام على الرحيل وفي مقدمتهم رئيس الدولة. هنا تتحقق الفرضية الأولى: ومفادها أنه مهما كان حجم الوسائل التي يتم تجنيدها وتوظيفها لفرض الحكم الاستبدادي، فإن المواطنين قادرون على بدء التغيير وطرد رموز النظام. 2 لم يعد ممكنا بالنسبة للحكام الحاليين، الاستفادة من جنة المنفى. فقد كان سائدا من قبل قناعة راسخة بإمكانية مغادرة القادة للبلاد في حال بروز أحداث وأزمات غير قابلة للتحكم، والاستفادة من أرصدتهم وأموالهم التي أودعوها بصورة غير شرعية بالخارج، فالأمر أضحى غير ممكن التحقيق بالنسبة إليهم شخصيا وغير متاح أيضا لعائلاتهم وأقرب مقربيهم، كما أضحى من غير الممكن أن يحظى الحكام بتأييد وترحيب القوى الدولية التي فهمت بأن مصالحها هي أن تصطف بجانب الشعوب لا في مساندة الحكام المستبدين. لننتقل إلى الفرضية الثانية ومؤداها أن الحكام المستبدون يواجهون اليوم ضغوطا متعددة من المجتمع وعائلاتهم وأقرب مساعديهم ومن القوى الدولية. 1 لقد بينت التجارب التونسية والمصرية بأنه أيا كان حجم المزايا والهدايا التي يقدمها الحكام المستبدون لصالح القوات المسلحة وقوات الأمن، فإن هذه الأخيرة ستنحاز في نهاية المطاف إلى شعوبها لا إلى جانب الحكام المستبدين. ومن ثم ننتقل إلى الفرضية الثالثة القائلة باصطفاف قوات الجيش والأمن إلى قوى التغيير لا محالة. 1 إن الوسائل التكنولوجية الجديدة للإعلام والاتصال وشبكات التواصل ''فايسبوك وأنترنت'' لعبت دورا أساسيا في تجنيد المواطنين من أجل التغيير وهي متاحة بالنسبة للشباب في أي زمان ومكان. ومن هنا نتحول إلى الفرضية الرابعة ومفادها أن الأدوات الافتراضية لتكنولوجيات الإعلام والاتصال متاحة لأغلبية الشباب، وأضحت وسيلة ناجعة وفعالة جدا للتجنيد السلمي من أجل التغيير. وانطلاقا من هذه الفرضيات الأربع المتينة، لأنها بنيت على تجارب معاشة وواقعية، يمكن التأكيد على قدرة المواطنين على تغيير النظام، من خلال الضغوط متعددة الأشكال التي تمارس على الماسكين بزمام الحكم، والحياد الإيجابي أو المشجع للقوات المسلحة وقوات الأمن وكذلك سهولة الوصول للأدوات العصرية للتجنيد، نكون بذلك قد توصلنا إذا إلى الطريق الذي يجب اتباعه لتوفير العامل الأول للتغيير: ضغط المجتمع. ولكن يتعين التأكيد على أن الفرضيات الأربع توفر الوسائل والأدوات التي يمكن من خلالها الشروع في عملية التغيير ولكنها لا توفر عوامل تحقيق التغيير، إلا أننا نعلم ما يجب القيام به لدفع رموز النظام على الرحيل خاصة رئيس الدولة ولكننا لا نعلم بعد بالمقابل نمط تسيير التغيير، وكل ما لدينا هي الشروط الضرورية للشروع في التغيير ولكنها غير كافية لتجسيد التغيير في الواقع. وفي حقيقة الأمر تبقى نهاية الحكم دائما مكلفة جدا بالنسبة للحكام المتسلطين وعشوائية غير منتظمة بالنسبة لمسار التغيير، فهي مكلفة للحكام المتسلطين إذ أن القذافي مثلا فقد أبناءه في المعركة، بينما أصيب علي عبد الله صالح بجروح بليغة في جسمه، وعايش مبارك الإهانة والمذلة بعد أن ظهر في القفص أمام هيئة المحكمة، كما تعرضت أرصدة كافة الحكام المتسلطين وعائلاتهم وأقرب مساعديهم إلى الحجز. فمن غير مصلحتهم إذن ولضمان إنقاذ أرواحهم أن يترك الأمور تسير بهذا المنوال، وأن يتركوا الوضع الأمني ينفلت ويصبح خارج سيطرتهم، كما أنها عشوائية وغير منتظمة لتحقيق التغيير. فمنذ البداية، وبعد رحيل رئيس الدولة تجد السلطات الجديدة نفسها أمام رهانات متناقضة: الإسراع في التوجه نحو تنظيم الانتخابات لإقامة حكومة شرعية قادرة على وضع إستراتيجية لتحقيق التغيير؛ ولكن التأكيد على وجود حاجة لفترة زمنية لتحقيق الوفاق بين مختلف القوى المتباينة حول المبادئ الأساسية التي يجب أن يبنى عليها النظام السياسي الجديد. لذلك تؤجل تواريخ الانتخابات. وهذا ما حصل في تونس وفي مصر. كلما مرّ الوقت تبدأ الحكومة الجديدة في فقدان شرعيتها، ويزداد خطر العودة من جديد إلى الاستبداد وانتشار هذه الأفكار بين أفراد المجتمع، ما يدفع إلى العودة للشارع لتعم الفوضى! وفي الواقع توجد رغبة لدى السلطات التي لم تشملها بعد حركة التغيير، في أن ترى فشل تحقيق التغيير في تونس وفي القاهرة. تجدر الإشارة إلى أن هذه الصعوبات ليست مرتبطة ارتباطا وثيقا بصيرورة التغيير فقط التي فرضها المجتمع، بل إنها أيضا من أخطاء الحكام الذين لم يحسنوا إدارة وتسيير طريقة خروجهم لضمان سلامتهم والمساعدة على نجاح التغيير لصالح البلاد. ومن هنا تتجلى أهمية إرساء وتجسيد العامل الثاني ويتم بفضله توفير شروط التحالف بين قوى التغيير لتحديد قوة اقتراح وتفاوض وتجسيد. وتصبح إقامة التحالف حلا مقبولا يفرض نفسه لأنه: بعد عشريتين من التفرقة الإيديولوجية التي تسببت في مواجهات فيما بيننا سياسيا وماديا ومعنويا وثقافيا؛ لا تزال الجراح عميقة ومؤلمة داخل مجتمعنا. عجز التيارات السياسية المنقسمة باستمرار عن اقتراح حل بديل مقبول يؤثر على معنويات الشعب الذي أضحى يمقت المناورات والتلاعب بمصيره. إن المحاولات المتكررة للتفرقة والتلاعب من طرف بعض أفراد السلطة تقف حجر عثرة أمام وحدة قوى التغيير في المدى القريب. لذا يجب التذكير بأن نداء التحالف لا يعني الاندماج أو الانصهار ولا الوحدة ولكن المشاركة في وضع وسائل التعبئة السلمية في خدمة التغيير. إنه نداء من أجل تعاون وفق قاعدة أن المكسب للطرفين، وستحتفظ الجمعيات والأحزاب المشاركة في التحالف باستقلالياتها. بعد نهاية الفترة الانتقالية يكون لكل حزب الحرية أن يتقدم بمفرده أو مع تحالفات إلى الرهانات الانتخابية في المستقبل. أما بخصوص العنصر الثالث، وهو الحدث الذي يمثل فتيل حدوث التغيير، فمن الصعب توقعه بدقة لأن أسباب حدوثه مختلفة ومتباينة. في إندونيسيا جاء هذا الحدث بعد إضراب شامل للطلبة إثر رفع أسعار مشتقات المحروقات والوقود والبنزين بالمحطات، ما تسبب في ارتفاع أسعار النقل! وانطلقت موجة الإضرابات في الجامعات بالمناطق الداخلية للبلاد ثم اتجه الطلبة المضربون صوب العاصمة. وأدى تجمعهم بالآلاف بجاكرتا، ولعدة أيام، إلى تدخل القيادة العسكرية التي طلبت من الجنرال سوهارتو التخلي عن مهامه وعن السلطة، بعد 32 سنة من ممارسة حكم فردي. أما في إسبانيا فقد جاء التغيير بعد موت الدكتاتور فرنكو. وفي تونس تمثل الحدث الذي قاد إلى الثورة في حرق الشاب البوعزيزي نفسه بالنار.. وفي مصر نموذج الثورة والانتفاضة التونسية هي المؤثرة في مسار الأحداث والعامل الأساسي للتجنيد. وفي الجزائر كان بإمكان أحداث 5 جانفي 2011 أن تكون الحدث المؤثر والفتيل الذي يساهم في بروز التغيير لكن العنصرين الآخرين، خاصة ضرورة وجود التحالف الاستراتيجي بين قوى التغيير، لم يتوفرا. يعتمد النظام لمواجهة عناصر التغيير على العوامل الثلاثة التالية: اعتماد وتبني ديمقراطية الواجهة وسياسية التماطل والتسويف لإرضاء القوى الخارجية ومخادعة الرأي العام العالمي. الرهان على تشتت وانقسام قوى التغيير وضعف الوعي السياسي لدى الشعب. استخدام الريع والنهب لكسب ود الشعب أو شراء الذمم بتقديم بعض التنازلات وبإجراءات ديماغوجية، باستغلال جزء من احتياطيات المحروقات غير المتجددة على حساب مصلحة الأجيال القادمة. لكن علينا أن ننتبه إلى أن انطواء السلطة وانعزالها عن الواقع من جهة والغضب الشعبي المتزايد في الشارع من جهة أخرى، يوحيان بأن الوضع قد يصبح غير مطاق في أية لحظة. من هنا تأتي ضرورة إقامة التحالفات الإستراتيجية بسرعة بين مختلف قوى التغيير لتفادي الانحراف والفوضى. هذا هو الهدف الأول من عملنا، المتعلق بالتعبئة السلمية من أجل التغيير. إن الاختيار واضح بالنسبة للحكام: ترك الأمور تسير دون ضبط وتسويق إصلاحات تجميلية ليكون مصيرهم مثل مصير حكام تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وإدخال البلاد في فوضى عارمة. المساهمة كطرف فاعل في إعداد التغيير بالتفاوض مع قوى التغيير على خارطة طريق وعلى رزنامة لتحقيق تغيير نظام الحكم، أي إنجاز وتحقيق المرحلة الانتقالية.