إنّ الدارس لكتاب الله عزّ وجلّ والمتصفِّح لما ورد في القرآن الكريم ليلتمس جليًّا أنّ الله تعالى أمرنا أن نتوجَّه إليه بالدعاء، كما قال تعالى: ''وقال ربُّكم ادعوني أسْتَجِب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين''. وقال تعالى: وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيب دعوة الدّاعي إذا دعان''. انظر إلى الآية الأولى، ربُّنا عزّ وجلّ ذكر أنّ الإعراض عن الدعاء هو ضرب من الاستكبار والاستعلاء عن عبادة الله عزّ وجلّ. وفي الآية الثانية، علّق ربّنا عزّ وجلّ الاستجابة بالتوجّه بالدعاء إلى الله عزّ وجلّ، بل إنّ الأنبياء والرسل عليهم السّلام كانوا يتوجّهون إلى الله بصالح الدعاء كما قال تعالى إخباراً عن سيّدنا إبراهيم عليه السّلام: ''ربَّنا اغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب''. وقال الله تعالى إخباراً عن سيّدنا نوح عليه السّلام ''ربِّ اغفر لي ولوالديَ ولمَن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات''. وقال الله عزّ وجل إخباراً عن صالحي هذه الأمّة ''والّذين جاؤوا من بعدِهم يقولون ربَّنا تغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان''، لأنّ الدعاء يُعلّمنا الخضوع والانقياد الحقيقي لله سبحانه وتعالى الذي هو لب العبادة كما جاء في الحديث الّذي يرويه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق النّعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''الدعاء هو العبادة'' لما فيه من إظهار الذِلَّة والافتقار إليه سبحانه وتعالى. قال الإمام العارف بالله أبو القاسم القُشيري في رسالته المسمّاة ''الرسالة القُشيرية'' ص204 (اختلف النّاس في أنّ الأفضل الدعاء أم السكوت والرِّضا؟ فمنهم مَن قال الدعاء عبادة للحديث السابق ''الدعاء هو العبادة''، ولأنّ الدعاء إظهار الافتقار إلى الله تعالى، وقالت طائفة السكوت والخمود تحت جَرَيان الحُكم أتم والرِّضا بما سبق به القدر أولى، وقال قوم لكون صاحب دعائه بلسانه ورضاً بقلبه ليأتي بالأمرين جميعاً'' ثمّ قال: ''والأولى أن يُقال الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السّكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السّكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب، وإنّما يعرف ذلك بالوقت''. قال الإمام الحافظ النووي في ''الأذكار'' ص: 637 (ومن شرائط الدعاء أن يكون مطعمه حلالاً، وكان يحي بنُ معاذ الرّازي يقول: كيف أدعوك وأنا عاصٍ، وكيف لا أدعوك وأنتَ كريمٌ؟''. ومن آدابه حضور القلب، وقال بعضهم: المراد بالدعاء إظهار الفاقة وإلاّ فالله سبحانه يفعل ما يشاء)، فلا بدّ أن نُعوِّد ألسنتنا الدعاء وخاصة في الأوقات الفاضلة والأحوال الشّريفة كحالة السجود ونزول المطر وإقامة الصّلاة وبعدها وحالة رقّة القلب مع رفع اليدين كما جاء في الحديث الّذي يرويه أبوداود والترمذي وابن ماجه وقال الحافظ ابن حجر: إسناده جيّد: ''إنّ الله حيي كريم أن يرفع أحدكم يديه إلى السّماء ويرجعهما صفراً خائبتين''. وكما جاء في الحديث الّذي يرويه مسلم: ''ثمّ ذكر الرّجل أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السّماء ويقول: ''يا ربّ يا ربّ يا ربّ''. ورواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه في الدعاء لم يُحطّهما حتّى يمسح بها وجهه''. وصدق الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي لمّا قال في ''الإحياء'' ج1 ص 328 فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أنّ القضاء لا مردّ له؟ فاعلم أنّ من جملة القضاء ردُّ البلاء بالدعاء، والدعاء سبب لردِّ البلاد ووجود الرّحمة، كما أنّ التُّرس سبب لدفع السلاح والماء سبب لخروج النّبات من الأرض، فكما أنّ التُّرس يدفعُ السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء ألاّ يُحمل السّلاح وقد قال تعالى: ''وليأخذوا حذرَهُم وأسلحتهم''، فقدَّر الله تعالى الأمر وقدَّر سببه، فافهم. *إمام مسجد ابن باديس - الجزائر الوسطى