يعد كتاب رئيس الحكومة الأسبق، أحمد بن بيتور، الصادر حديثا في طبعة جديدة ومنقحة بعنوان ''تشخيص نمط الحكم في الجزائر''، بمثابة مشروع سياسي واقتصادي يقدم وصفة خبير في الشأن الاقتصادي للخروج مما يعتبرها ''أزمة المجتمع الجزائري حاليا''. جاء كتاب أحمد بن بيتور الصادر في طبعة ثانية عن منشورات ''اديف 2000''، على شكل مزج بين السيرة الذاتية والتجربة التي قادته إلى وظائف سامية. وبالعودة إلى مرحلة الطفولة والتوقف عند الإرث العائلي المثقل بالنضال الوطني والثوري، يقدم بن بيتور نفسه كمواطن متشبع بالروح الوطنية التي تدعمت بمسار تعليمي ممتاز قاده إلى افتكاك شهادة الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية. وكتب بن بيتور بشأن هذه العودة إلى الماضي: ''فضلت العودة إلى حياتي طيلة نصف قرن، لكي أقدم تجربة جيل بكامله، وضع آماله في إحدى أكبر ثورات القرن العشرين، قصد وضع حد للوضعية المزرية التي برزت خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد قمت بإبراز آمال وإخفاقات الجيل الذي أنتمي إليه''، مضيفا: ''بالعودة إلى تجربتي، حللت المسائل المنهجية والتطبيقية الضرورية لاتخاذ القرار، ومن أجل جعل هذا العمل مرجعية مفيدة لكل الذين تحذوهم رغبة تحقيق الرخاء لشعبنا''. وبعد تناول تفاصيل عن تجربته في مختلف المؤسسات الاقتصادية، وصولا إلى استقالته من منصب رئيس الحكومة في أوت 2000، كتب بن بيتور أن ''الاقتصاد الجزائري مصاب بمرض مستفحل، نحاول شفاءه بإعطائه جرعات من الأسبيرين، لكي نسكن آلاما مؤقتة دون تقديم الشفاء''. ويعتقد أحمد بن بيتور أن هذا المأزق الاقتصادي نتج بفعل استفحال شمولية انتشرت على المستوى السياسي منذ سنة 1990، ومست المستويين التنفيذي والتشريعي. ويتجلى ذلك، حسبه، ''من خلال المطالبة بالسلطة باسم أفكار الحرية، العدالة والمساواة والرخاء المتبادل''. ويستنتج أن البلاد تعرف حاليا حالة من الانسداد، وأضاف: ''إن التحولات الاجتماعية الحاصلة اليوم لم تعد تعمل في صالح النخب الاجتماعية والمثقفة، بل ساهمت في تفقيرها، رغم أنها هي التي تعتبر بمثابة قاطرة التقدم، وبرز ذلك بفعل بروز فئة الأغنياء الجدد، ما أدى إلى فقدان قيمة العمل على المستوى الاقتصادي وفقدان القيمة الأخلاقية على المستوى الاجتماعي، ما أدى كذلك إلى وجود معارضة صامتة للنظام، برزت من خلال فقدان الثقة في الحياة السياسية مثلما تمارس حاليا''. وحسب المؤلف، فإن إخفاق الشرعيات الواحدة تلو الأخرى، هي التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، وجاء في الكتاب تحديد مغاير لأشكال الشرعيات، وهي: ''الشرعية التاريخية (1962 1965)، ''شرعية بناء الدولة الوطنية'' (بعد جوان 1965)، ''الشرعية التنموية'' (مع بداية السبعينيات)، ''شرعية السياسة الخارجية''(مع منتصف السبعينيات)، ''شرعية الرفاهية''، ''الشرعية حول الحزب الواحد'' (مع منتصف الثمانينيات) و''الشرعية الدينية (مع نهاية الثمانينيات). ولا يتوقف رئيس الحكومة الأسبق عند توجيه النقد للوضعية الاقتصادية والسياسية الحالية، بل يقدم سلسلة من التصورات والأفكار للخروج من الأزمة، فكتب ما يلي: ''ليس بإمكان الإصلاحات الاقتصادية أن تنجح، إلا إذا قامت على سياسة اقتصادية يتم صياغتها بوضوح منذ لحظة وضعها، وتخضع مراحلها لتخطيط صارم منذ الشروع فيها''. مركزا على الإصلاحات الكبرى الواجب إدخالها على المؤسسات الاقتصادية والسياسية مع إدخال عنصر التجديد لمسايرة التحولات التي تحصل على المستويين الداخلي والدولي. وحسب بن بيتور، فإن الإصلاحات لا يمكن أن تنجح إلا في حال وضع سياسة اقتصادية يتم صياغتها من قبل كفاءات وطنية تملك ما يكفي من التجربة والخبرة، مركزا على استحالة الاعتماد على الخبرات الأجنبية لإنجاح هذه الإصلاحات. كما يقترح المؤلف ''القيام بعمل يعتمد على تشخيص الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للجزائر، وكذا تقديم تحليل مقارن للتجارب المماثلة التي تشبه التجربة الجزائرية، قصد اقتراح سياسة جديدة للخروج من الأزمة''. ويقدم أحمد بن بيتور سلسلة من المقترحات، منها بناء سياسة جديدة للتنمية تقوم أساسا على شرعية المؤسسات والمسؤولين، مع اختيار الكفاءات التي تملك إلماما بالمشاكل الاقتصادية، وتحظى بالاحترام في الداخل والخارج. كما يقترح إعادة العمل بورقة الطريق حتى يتمكن المسؤولون على جميع المستويات من معرفة الأهداف المنتظرة منهم. ودعا إلى تأسيس معهد للاستشراف، وكذا خلق أقطاب جهوية للتنمية وإنشاء مجلس اقتصادي للأعمال ومجلس استشاري وطني للعمل. ويعطي بن بيتور الأهمية القصوى للنجاعة الاقتصادية، وللحكم الراشد، ما يؤدي، حسبه، إلى بلوغ شرعية جديدة بعد إخفاق مختلف محاولات البناء والشرعية منذ الاستقلال، مع وضع برنامج لإعادة التأهيل ومواجهة الظروف المستعجلة، التي تتعلق بإصلاحات مرتبطة بميادين القضاء والتربية وغيرها. أحمد بن بيتور.. ''تشخيص نمط الحكم في الجزائر''.. منشورات ''اديف 2000''، الجزائر. السعر 800 دج .