عاد النواب أخيرا إلى إسطبلاتهم في القاعدة التي يدّعون أنها انتخبتهم، وراحوا يظهرون في المقاهي الشعبية، يلقون التحية على العابرين، ويستقبلون بالأحضان الأصوات المحتملة في التشريعيات القادمة. بل إن بعضهم جعل من حضور الأعراس وزيارة المستشفيات والمقابر وتقديم التعازي واجبا وطنيا، وشغلا لا يتوقف ليل نهار، حتى أن بعضهم أصيب بعدوى الكرم وأصبح يوزّع الأموال يمينا وشمالا، ويعطي الصدقات للمتسولين أمام أعين الجمهور. هذا المرض القديم أصاب أيضا الأحزاب القديمة، وأنوّه هنا بعبارة الصديق حيدر بن دريهم التي تقول ''لا توجد أحزاب كبيرة وأخرى صغيرة، وإنما أحزاب جديدة وأخرى قديمة''؟.. تلك الأحزاب عادت من حيث لا يدري أحد الى الحياة، وأصبحت هي بدورها تركض بين المدن والقرى والمداشر، تبشّر الشعب المسكين بالاهتمام بمشاكله وهمومه ومنغصات حياته اليومية، تتفاوض بسرية على شراء رؤوس القوائم، وتعلن للناس أنها ستختار لهم نوابا يحلّون مشاكلهم بعد أربع وعشرين ساعة من انتخابهم، بل راح بعضهم دون حياء ولا رحمة بهذا الشعب يبتز عواطفه بترشيح الرئيس لعهدة رابعة وخامسة... وقد ظهرت أعراض هذا المرض الغريب الشبيه بالجنون حتى على بعض الأحزاب التي تدعي أنها جديدة، ولكنها في الحقيقة مجرد سطو واحتيال على الفرصة الذهبية لما يسمى بالإصلاح السياسي، فلا جديد فيها سوى الضحك على الناس، فأغلب الوجوه البارزة فيها هي وجوه قديمة ساهمت في المأساة التي دمرت الجزائر وزعزعتها إلى المراتب الأخيرة بين الدول. لكن روح المؤامرة القديمة التي يتميزون بها جعلتهم يخونون وينشقون على أحزابهم، ويتبرأون من ماضيهم الشائن، وينسلخون كالثعابين من جلودهم، محاولين أن يخدعوا هذا الشعب المغلوب على أمره.. وما يخدعون إلا أنفسهم. لكن أخطر ما في هذا المرض أن عدواه انتقلت حتى الى قلب الخطاب السياسي. فكل رؤساء الأحزاب،. بما فيها تلك المشاركة في وليمة الائتلاف، شددوا من لهجتهم الخافتة وأصبحوا ينتقدون علانية ويعارضون ويزايدون ويتبرأون من النظام والحكومة والمفاسد التي جعلتهم سمانا كالأبقار. بل راح بعضهم يتبجح بأنه كان معارضا حتى وهو داخل نظام الحكم، وخرج آخر غاضبا في الائتلاف في الدقائق الإضافية للمقابلة وصب جام غضبه على حلفائه بالأمس لعله يستحلب بعض الأصوات الضائعة، وراح الجميع يلبس ثوب المعارضة لاستغفال الناس والضحك على ذقونهم لربح بعض المقاعد البرلمانية فيما يسمّونها عن حق لعبة الانتخابات. لا حول ولا قوة الا بالله وصدق رسول الله القائل: ''إن لم تستحي فاصنع ما شئت...''.