بعض الصفات الحميدة لا يمكن توريثها مهما كانت من طبائع آبائنا، وإنما نتعلمها من الحياة كما نتعلم القراءة والكتابة والسباحة، نجتهد فيها قصارى جهدنا كي نمتلكها فتصبح من طبائعنا التي تعيننا على تحقيق حياة أفضل. في السنوات الأولى من الاستقلال، كان هناك رجال في هذا البلد على أخلاق عالية، درّبتهم سنوات الجمر على إنكار الذات وطهارة السريرة، والاستعداد للمبادرة والتضحية. كانت الثورة، وهي فترة رهيبة في حياة الإنسان ومخبر عالي الاتقاد لطبائعه وأفكاره وقوته البدنية والروحية، قد جعلت منهم (أي أولئك الرجال) نموذجا للنزاهة والغيرة على الوطن وإيثار الآخرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... ثم وللأسباب أصبحت معروفة بدا الزيف يتسلل بملفاته بينهم، وامتلأت الساحة الوطنية بتجار المعارك الوهمية، والمهرولين للمناصب والامتيازات والشاحذين أسنانهم لنهش لحم الآخرين. بعد خمسين سنة من الالتفاف على التاريخ وعلى الحقائق وعلى أخلاق الرجال، وصلنا إلى عصر والى بلد أصبحا مفرغة عمومية يتسابق فيها الناس إلى طرح فضلاتهم، ثم الانكفاء على ذواتهم. لم نطور فينا الإنسان النيوندرتالي إلى إنسان تكنولوجي، كما شاء علماء الانتروبولوجيا، وإنما عدنا إلى إنسان الكهوف، كل واحد فينا يغلق مغارته على نفسه لاتقاء شر الآخرين، يهمل لحيته ومظهره كي لا يثير انتباه الآخرين، ويمشي في الشارع كظل دون مزايا ولا أثر... وبالتالي ظهر فينا الإنسان الذي يستعيذ من نفسه إذا قال أنا، الإنسان الذي لا يواجه الآخرين ولا الحياة، بل لا يسمع توبيخ الحياة له على جبنه وغبائه وتكاسله، ولا يستفيد من خبرات وتجارب الآخرين كي يستعين بها على تحقيق حياة أفضل. منذ ظهور هذا النوع من الإنسان، وبعد خمسين سنة مما يسمى الاستقلال، سادت تلك الصفات الثلاث التي تجعل من أي بلد مفرغة عمومية لمخلفات المخلوقات: الفساد، الزيف، اللاكفاءة. دعوني أقوم هنا ببعض الإنزياح اللغوي مع الاعتذار لأهل البلاغة. فالفساد لم يعد ماديا، أي أخذ الرشوة وسرقة أموال الخزينة العمومية، ذلك النوع من الفساد ببعض الإجراءات الصارمة يمكن التحكم فيه، وإنما الفساد الأخطر والخارج على القانون والذي لا يمكن التحكم فيه هو الفساد التربوي، الفساد الذي ينتج لنا رجالا بلا معرفة لإدارة شؤوننا ولا أخلاق لحماية كرامة بعضنا البعض، ولا اجتهادا للقيام بما يجب علينا القيام به. وقد تداعى على هذا النوع من الفساد إنتاج إنسان غير كفء. وهنا أيضا لا بد من بعض الانزياح اللغوي، فاللاكفاءة لا تعني فقط ضعف المعرفة وقلة الجهد وغياب الذكاء، وإنما أصبحت تعني فقدان الإنسان لحجمه الحقيقي، الإنسان الذي لا يعرف قدره، بل ببعض التبجح والاستعراض والظلم والعماء على الحقائق يتحول إلى فيل، وأصبح من العادي أن يطمع بائع خضار أو سائق طاكسي أو نادل في حانة للوصول إلى منصب وزير أو حتى رئيس جمهورية وهو لا يشعر بأنه يظلم نفسه ويظلم أمته. سيقول البعض من حقه أن يطمع فمثل هذه المناصب في هذا العصر لا تحتاج لكفاءة أكبر مما عند هؤلاء، لكننا نقول أن هذا العصر ليس نموذجي على كل حال. ومن الطبيعي إذا ما التقى الفساد واللاكفاءة في شعب من الشعوب أن يصبح التزوير هو المهارة الوحيدة المكتسبة، والتزوير هنا ليس مجرد تزوير انتخابات أو تصوير ورقة مالية ودسها في الدورة الاقتصادية وهي بلا مقابل مادي لتكسير قيمة الاقتصاد. بل تزوير رجال ليس لهم قيمة في الدورة الحياتية لأمتهم ودسّهم على رأسها لتكسير قامتها، رجال لا يتميزون بما تميز به أسلافهم الذين حرروا تراب هذا البلد من استعمار لا تزال آثاره في حاجة إلى ثورة، أي إنكار الذات، وطهارة السريرة والاستعداد للمبادرة والتضحية. بمعنى آخر النظام السياسي في هذا البلد يعمل بعبقرية فذة على تطوير إنسان الكهوف إلى كائن سياسي لحكمنا مستقبلا.. ما شاء الله!؟