حينما يغيب النظام تحل الفوضى، وحينما يغيب العقلتبرز الغزيرة. وإذا مالت الكفة للفوضى والغزيرة فإن النتيجة، لا محال، هي باتجاه الكارثة.. هذه الخلاصة تعكس ما تعيشه الجزائر من انقلاب في سلم القيم. بلد غني بموارد حُوّلت إلى ريع، فقير في التسيير، فاقد لتلك القدرة الخلاقة على الإبداع، الذي ميز البلدان التي عكست نظرية جون أرلوند توينبي حول التحدي والاستجابة، والتي تحوّلت، في عشريتين، من بلدان سائرة في طريق النمو إلى بلدان صاعدة باقتدار. هذه البلدان، بناء على ماليزيا وأندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية، جعلت الإنسان، أو الفرد، محور النمو والتطور، على غرار مقولة الاقتصادي السويسري ليونارد سيسموندي دو سيمسموندي بأن هدف المجتمع الإنساني هو في رقي الإنسان، لا في تنمية الأشياء. ولكننا عكسنا القاعدة، واعتبرنا بأن تكديس الأشياء، وفق مقاربة مالك بن نبي، هي التي ستحقق لنا النمو، الذي تحول إلى وهم كبير. والنتيجة تكريس الرداءة في كل مكان، فالمتفقد للمدن الجزائرية يتأكد بأن الرداءة أضحت قاعدة معممة، إذ كيف يمكن تفسير عجز بلد، بعد خمسين سنة من الاستقلال، على حل مشكل اسمه الأرصفة. فالأرصفة في الجزائر لا تزال مشكلا وطنيا عويصا، إلى درجة دفع أحد الديبلوماسيين العرب إلى اقتراح مساعدة بلده لتمكين الجزائريين من أن يمتلكوا أرصفة كباقي خلق الله في العالم. ونفس القاعدة تسري على النقل والصحة، وكافة القطاعات التي لا تخضع إلى مبدأ المحاسبة، التي سمحت للبلدان العصرية بالارتقاء، لأنه لو قدم رئيس البلدية حصيلته الفعلية، بعد نهاية عهدته، ولو قام الوالي والوزير بنفس الأمر، لما بلغ الأمر إلى مثل هذه الوضعية المزرية التي نعيشها، والتي تنطبق عليها مقولة أبو الطيب المتنبي ''وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء''، أو كما يقول الفيلسوف والاقتصادي الإيطالي، سيزاري بيكاريا، إن أكبر الكوابح التي تعترض الجنح ليست في صرامة الأحكام، أو قسوة العقوبات، لكن في غيابها أو عدمها. فدور الدولة المحترمة هو إحلال العدل والنظام والقانون للجميع، دون تمييز، وإلا اختلت الموازين. إذا كان الأمر يتعلق بفئة أو مجموعة، أو زمرة، أو قلة، أو جهة، على حساب أخرى، لأن العدل أساس الملك كما يقال، فكيف لا نستغرب بأننا نتغنى ب002 مليار دولار احتياطي صرف، و08 مليار دولار احتياطي بصندوق الضبط، و01 ملايير دولار احتياطي ذهب، و041 مليار دولار ناتج محلي خام، ثم نجد 6 ملايين فقير، نصفهم تحت عتبة الفقر، وفوارق بين الفئات الغنية والفقيرة بأكثر من 42 إلى 03 مرة، حسب توزيع الثروة والدخل، وموجة هجرة غير شرعية غير متناهية، ونسب انتحار رهيبة، وتعاسة ترتسم في وجوه مئات الآلاف، وأطفال يتعذر عليهم التنقل إلى مدارسهم، لانعدام وسائل النقل، بينما يتنعم بعض المحظوظين في مدارس باريس ولندن، وامرأة لا تجد سريرا في مستشفى عمومي لتلد على الأرض، بينما يسرع نسائهن إلى أكبر مستشفيات فرنسا، ليحصل المولود الجديد على الجنسية. ولا نستغرب بالتالي أن تتحول أحد جواهر الصناعة الجزائرية، وهو مركّب الحجار، من استقطاب الانتباه على الصفحات الاقتصادية إلى صفحات الحوادث، لأن سلم القيم في بلادنا انقلب رأسا على عقب، وأننا، بمنطق البعض، لا نزال نتباهى بأننا الأكبر والأوسع والأقدر، بينما نحن لا نزال ننحدر باستمرار، ووفقا لنواميس الحياة، وكما يقول كونفوشيوس من لا يتقدم يوميا، فإنه سيتراجع وينتكس كل يوم. ولنبقى نردد ما قاله الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن ''يمكنك أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وتخدع كل الناس في بعض الأحيان، ولكنك لن تستطيع أن تخدع جميع الناس كل الوقت''. [email protected]