الفرق بين صاحب اللقب والوصيف سيارة وحساب في البنك فاجأت عائلتي عندما غنيت بالإنجليزية بعيدا عن صخب وبهرجة وأضواء استوديو برنامج ''أربس غوت تالنت''، حيث تفجرت موهبة الجزائرية داليا شيح إبداعا، تطفلنا على صاحبة الصوت ''الخارق'' في بيتها وبين أحضان عائلتها، فكانت جلسة حميمية هادئة، لم يكسر سكونها إلا النوطات الأندلسية تارة، وأنغام ''السول'' و''الغوسبل'' تارة أخرى، صدح بها صوت كانت ''الخبر'' سباقة لاكتشاف جماله، فكانت صاحبته حاضرة دائما في حفلاتها، قبل أن يسطع نجمها على مسرح ''للعرب مواهب''. لم يكن صعبا الوصول إلى بيت داليا شيح بالناظور في مدينة شرشال الساحلية، رغم أن عائلتها حديثة العهد بالمكان، إذ انتقلت إليه من العاصمة قبل أقل من سنتين. لكن من لا يعرف داليا هناك !؟ وهي التي هزت مسرح ''أرابس غوت تالنت''، وافتكت بقدراتها الصوتية الهائلة ثناء لجنة التحكيم وغادرته بمرتبة ثانية، لكن نجمة عالمية على رأي علي جابر، رئيس اللجنة. كان السيد عز الدين شيح والد داليا، في استقبالنا أمام البيت لحظة وصولنا، ونحن نتبادل التحية بادرنا بشكر ''الخبر'' على دعمها ابنته في تجربتها في برنامج اكتشاف المواهب على قناة ''أم.بي.سي''، قائلا: ''لن ننسى تشجيعكم لداليا منذ ظهورها الأول في البرنامج، ودعوتكم الجزائريين للتصويت عليها بقوة..حقا ندين لكم بالكثير''. ونحن نلج البيت عبر حديقته الجميلة، شدّنا ديكوره الأنيق والبسيط في الوقت نفسه، فكل ركن فيه يغريك لتقف متأملا جمالا يأخذك للحظة في سفرة افتراضية بين القارات والثقافات، فيلة هندية هنا، ودمى روسية هناك، مرآة من أفغانستان بجانبها خرز زرقاء تركية و''خامسات'' من الجزائر، تونس والمغرب أينما وليت وجهك، حتى وأنت في المطبخ. ''ربما لاحظتي أنني مولعة بجمع الخامسات'' تقول والدة داليا مبتسمة قبل أن تواصل وهي ترافقنا إلى مكان جلوسنا: ''كنت محظوظة بالسفر بين عدة بلدان وأنا شابة، وكما ترين اقتطفت من كل بلد قطعة''. لأجيبها أن من يعيش بين هذه الجدران لا يمكن أن يكون إلا فنانا. وفي قاعة الاستقبال الواسعة أطلت علينا داليا مبتسمة كعادتها، فبدت وهي تتنقل بين أرجاء البيت، كطفلة لم تخطفها بعد أضواء الشهرة، غير مدركة أنها قد دخلت رغما عنها دائرة الضوء. جلست وأمامها فيتارتها، وراحت تسترجع ذكريات أولى النوطات التي وقّعتها أناملها. بكاءها كان نغمة تقول داليا التي رأت النور قبل 14 عاما في حي القبة بالعاصمة: ''لا أتذكر متى وكيف عشقت الموسيقى، كل ما أعرفه أنها رافقتني منذ وعيت على هذه الدنيا..أمي كانت تقول دائما أن بكائي ذاته كان أغنية''. تقاطعها والدتها ضاحكة: ''صحيح، كانت تتفنن في تغيير نغمات بكائها، وربما هذا ما جعلني أستعجل في دفعها لتعلم الموسيقى''. واكتشفت صاحبة الحنجرة الذهبية، كما وصفها ناصر القصيبي، عضو لجنة تحكيم ''أرابس غوت تالنت''، الموسيقى مبكرا، فأناملها عزفت على مفاتيح البيانو وهي بعد في الخامسة، بعد أن ألحقتها عائلتها بجمعية موسيقية في حي أول ماي بالعاصمة. لكن ولبعد المسافة بين مقر الجمعية وبين البيت العائلي في الشرافة، فضّلت والدتها البحث عن مدرسة موسيقية أخرى، فوجدت ضالتها في جمعية ''عنادل الجزائر'' للفن الأندلسي بالشرافة. تقول داليا: ''بعد البيانو كانت الموندولين أول آلة موسيقية أعزف عليها، وأذكر أنني درست لثلاث حصص في المستوى الأول قبل أن يقرر أستاذي الشيخ يوسف أوزناجي نقلي إلى المستوى الثاني''. الشيخ سري تنبأ بموهبتها احتضنت الصغيرة المونودلين مثلما تفعل مع لعبتها، وأبدعت في العزف عليه كمحترفة، وهي الموهبة التي استوقفت أحد أعمدة الطرب الأندلسي، الشيخ سيد أحمد سري، الذي كانت داليا محظوظة بإسماعه صوتها. تقول داليا: ''استقبلنا وأنا حديثة العهد بالجمعية الشيخ سري ضيفا، يومها حدثه أستاذي وزناجي عن صوتي فطلب على الفور سماعي، وهو ما كان حيث أديت انقلاب (لذ لي شرب العشية)، وقال الشيخ بعدها..صوت هذه الطفلة سيأخذها بعيدا''. وتعترف داليا أنها كانت مولعة منذ صغرها ولاتزال بالأغنية الغربية، ولا تدندن بغيرها في خلوتها، غير أن الفن الأندلسي ساعدها أكثر على التمكن في اللغة العربية والتحكم في مخارج الحروف، مضيفة: ''أدين لشيخي يوسف أوزناجي بالكثير، فرعايته وضعت موهبتي على الطريق الصحيح''. سعدت بلقاء سعدان بفضل ''الخبر'' تركت عائلة داليا العاصمة لتستقر قبل سنة ونصف بالناظور في ولاية تيبازة، مدينة سحر هدوءها والدها الرياضي- المدرب السابق للمنتخب النسوي لكرة القدم- رغم أنه لا ينحدر منها، فقرر أنها ستكون آخر محطة يرسو فيها، بعد أن تنقّل وعائلته بين عدة أحياء في العاصمة. ابتعدت داليا عن مرتع صباها، وكذا عن دروس أستاذها الشيخ أوزناجي، بسبب صعوبة التنقل يوميا بين مقر إقامتها الجديدة في الناظور وبين العاصمة، إلا أن آفاقا أخرى امتدت أمامها بانتسابها إلى واحدة من أعرق المدارس الأندلسية، وهي جمعية الراشيدية. تقول اكتشاف برنامج ''للعرب مواهب'': ''قُبلت بسهولة في الراشيدة، بل وتم نقلي لأغني في المستوى الأعلى مع من هم أكبر مني سنا وخبرة، وأكثر من ذلك كان يسمح لي بأن أخرج عن النص أحيانا لأغني بطريقتي. ومع الراشدية شاركت في العديد من الحفلات، آخرها كان معكم في ''الخبر'' فترة قصيرة قبل التحاقي بالبرنامج، ويومها التقيت بالشيخ رابح سعدان، الناخب الوطني الأسبق، وكنت سعيدة بذلك. ''أرابس غوت تالنت'' الحلم تحقق قبل مشاركتها في برنامج اكتشاف المواهب على قناة ''أم.بي.سي''، كانت داليا مولعة بمتابعة هذا النوع من البرامج على القنوات الأجنبية، لكنها فوتت المشاركة في الطبعة الأولى منه لأنها لم تعرف بوجود نسخة عربية لبرنامج ''أمريكان غوت تالنت'' إلا بعد انقضاء آجال المشاركة. تعلق داليا: ''المشاركة في البرنامج كان فرصة قررت أن لا أفوّتها بعد التشاور مع عائلتي، فأرسلت تسجيلا على موقع البرنامج قدمت فيه أغنية غربية وأخرى أندلسية، ومرّ وقت طويل قبل أن يتم الاتصال بي والتأكيد على قبولي، يومها بقيت لساعات غير مصدقة..وفي الحقيقة لم أصدق إلا وأنا في بيروت''. الغناء بالانجليزية كان تحديا لأنها شبت على الفن الأندلسي، وأبدعت دائما في الاستخبارات والانقلابات، كانت عائلة داليا تتوقع أنها ستمثل الجزائر في البرنامج بالفن الأندلسي، لكن الفتاة كان لها رأي آخر، فرغم ولعها بالتراث الأندلسي إلا أن شغفها الحقيقي كان موسيقى البلوز والغوسبل والأغنية الأفروأمريكية، وحلمها كان الوقوف على المسرح وتقديم روائع نجومها المفضلين، على غرار كرستينا أغيليرا. تقول والدة داليا: ''لم أصدّق عندما قالت أنها ستغني بالانجليزية، كنت أعرف أنها مولعة بالغناء الغربي، لكني كنت أراها مبدعة في الفن الأندلسي، غير أننا احترمنا قرارها''. وعن التجربة تقول داليا: ''الانجليزية لغة عالمية والغناء بها يعني إيصال صوتي للجميع، كما أنه لم يسبق وأن أتيحت لي فرصة لأظهر قدراتي الصوتية في اللون الغنائي الذي أعشقه، في الحقيقة كان ذلك تحديا فاجأ عائلتي، لكني آمنت بقدرتي على رفع التحدي''. ولم يربك وهج الأضواء داليا في وقوفها الأول على مسرح ''أرابس غوت تالنت'' في طبعته الثانية، مواصلة: ''أشعر بالطاقة عندما أغني، وعندما ينتهي العرض أشعر دائما أنه كان يمكن أن أبدع أكثر''. وازدادت ثقة داليا بنفسها عندما هنأتها لجنة التحكيم، وأثنى عليها المشاركون في البرنامج، وهي الأصغر بينهم. فقدت جدتها في النصف النهائي وكادت أن تفقد صوتها، عادت داليا إلى بيروت للمشاركة في حلقة نصف النهائي بعد أن رسى اختيارها على رائعة الأمريكية أريتا فرانكلين ''ريسبكت''، كان الاختيار صعبا، والنجاح في تأديتها أصعب، تواصل: ''كنت أعلم أنها أحسن أغنية أظهر فيها قدراتي الصوتية، لكن لم يكن هذا سهلا على الطفلة التي فقدت جدتها لأبيها أياما قط قبل حلقة نصف النهائي. تسترجع بالكثير من الآسى ذكرى وفاة جدتها وتقول: ''سافرت بغصة في القلب، ففراق جدتي كان أقسى تجربة أمرّ بها في حياتي، كانت تعشق الأغنية الأندلسية، وتستمتع وأنا أغني لها ''يا قلبي خلي الحال يمشي على حالو''. حتى وأن حاولت التغلب على حزنها على وفاة جدتها، إلا أن أزمة أخرى طرأت على داليا ليلة مشاركتها في حلقة نصف نهائي البرنامج، إذ عانت من مشكلة في صوتها، وهو ما كان سيؤثر على أدائها، فاضطرت الى أخذ حصص تدليك لحبالها الصوتية. تقول والدتها: ''حقيقة ارتعبت وخفت أن تفقد تركيزها على المسرح، كانت متعبة وصوتها لم يكن طبيعيا، والأغنية التي اختارتها تتطلب قدرات صوتية كبيرة''. غير أن داليا استطاعت أن تتجاوز كل ذلك، وأبدعت على المسرح فأبهرت لجنة التحكيم. تضيف داليا: ''وأنا أقف على المسرح وأغني شعرت أن طاقة في داخلي تريد أن تتفجّر، لم تكن عيناي تريان أحدا، كنت أقول في داخلي هذا ما أردت دائما تقديمه، وعندما توقفت الموسيقى تحسرت لأنني كنت أريد أن تكون الوصلة أطول، وندمت لأني كنت أستطيع تقديم الأفضل''. وبعيدا عن بيروت كان والد داليا يتابع ابنته وحده في البيت، وعن تلك اللحظات يقول: ''كانت متعتي الحقيقية سماع ابنتي وهي تغني الأندلسي، لم أتوقّع يوما أنها ستبهرني في لون مغاير، كنت أكلم نفسي كالمجنون، هل هذه حقا ابنتي؟ ..أتصدقين أنني ذرفت الدموع وأنا أشاهدها'' يصمت محاولا إخفاء دموعه. لم أحزن لأن التصويت خيّبني حصدت داليا أعلى نسبة من تصويت الجمهور في حلقة نصف النهائي، لكن الأمر لم يكن كذلك في الحلقة النهائية التي كانت فيها بين الثلاثة الأوائل، وذهب فيها اللقب لفريق ''خواطر الظلام'' من السعودية. وفي عالمها الخاص، غرفتها التي زيّنتها الآلات الموسيقية جلست داليا تعزف على البيانو، لتتحدث عن آخر محطة لها في البرنامج ''متأكدة أنني قدمت أحسن ما لديّ وكذلك باقي المشاركين، يكفيني حب الجمهور الذي صوّت عليّ وثناء لجنة التحكيم، كما أنني حققت حلمي بتقديم اللون الغنائي الذي أعشقه على المسرح، وأسمعت صوتي لجمهور واسع..ثم بالنسبة لي الفرق بين حامل اللقب والوصيف سيارة وحساب في البنك فقط''. ماذا بعد ''للعرب مواهب''؟ ونحن نرتشف القهوة على مائدة زيّنتها الحلويات العاصمية، جلسنا نتابع مقاطع الفيديو التي تظهر فيها داليا في البرنامج الذي فتح باب الشهرة على مصراعيها أمام الطفلة التي لم تبلغ سن الرشد بعد، فماذا عن المستقبل. يقول والدها: ''صحيح أننا وقّعنا عقدا مع قناة ''أم.بي.سي'' راعية البرنامج -تحفظ عن ذكر تفاصيله- إلا أننا سنخطّط لمستقبلها بالتأني ودون حرق المراحل، لا تزال صغيرة لا نريد أن تبهرها أضواء الشهرة، أريدها أن تركز في دراستها أولا فهي الأهم حاليا، كما أن صوتها يحتاج للكثير من الدراسة والرعاية، وهذا لن يتحقق إلا في إكاديمية عالمية متخصصة''. تشاطره الرأي داليا التي وقعت خطواتها الأولى نحو الشهرة، وتقول أن أمامها الكثير من الأحلام لتحققها، لكن أهمها الآن الالتحاق بالثانوية الموسيقية بأمريكا...''إنه حلم أتمنى تحقيقه مثلما أنتظر أن يصل صوتي إلى العالم''. غادرنا بيت عائلة شيح تاركين طفلة تتدرج على السلم الموسيقي بثبات، والكثير الكثير من الأحلام والتحديات تختفي وراء ابتسامة بريئة تعد بالكثير. داليا في سطور هي الابنة الصغرى لعائلة متكونة من ابنتين تعشق صوت المغنيتين الأمريكيتين كريستينا أغيليرا وأريتا فرانكلين، وتستمع في الجزائر للشيخ سري وبهجة رحال وحميدو. نجحت مؤخرا في الانتقال إلى المرحلة الثانوية بمعدل 14 من عشرين، واختارت شعبة آداب ولغات. تعزف باليد اليسرى دون تغيير مواضع الأوتار، وقلة هم من يمكنهم ذلك.أعضاء فريق ''خواطر الظلام'' الفائز بلقب البرنامج من أقرب الأصدقاء إلى داليا. تفاجأت داليا بتهافت المصريين لالتقاط صور لها في مطار القاهرة، وأكد لها الكثير منهم أنهم صوّتوا لها على حساب مواطنيهم. تحمل داليا اسما اختاره والدها لآخر العنقود في عائلته، ف ''الدالية'' هي الشجرة التي تثمر العنب، فاكهته المفضلة.