يقول أديب الفقهاء وفقيه الأدباء العلاّمة علي الطنطاوي رحمه الله: ''لقد جرّبتُ زحمة الأعمال، وكثرة الإرهاق، فوجدتُ الفراغ أصعب منها بكثير''. يقول هذا الكلام بعد تسعين عاماً قضاها في الجدّ والاجتهاد والعمل الجاد، ولسان حاله يقول: مَن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. وهو ينبّه إلى خطورة هذا الداء الوبيل الذي قتل كثيراً من مواهبنا، وعطّل كثيراً من طاقاتنا، وأهدر كثيراً من أوقاتنا، وفوّت كثيراً من الفرص علينا! يعجب المرء حين يرى الفراغ يقرض حياتنا وينقصها من أطرافها، مع حاجتنا ونحن الأمّة الضعيفة التي تريد النّهوض إلى استغلال كلّ جهد، وكلّ وقت، وكلّ طاقة، للسّعي لتغيير حالنا وواقعنا، وتصحيح مسارنا وأوضاعنا. إنّ ما يعانيه الكثير منّا من فراغ وما ينجم عنه من سلبيات، هي كحلقات السلسلة، تجذب الواحدة منها أختها، إنما هو مظهر من مظاهر العجز الذي نراوح فيه منذ أمّة من الزّمن، عجزٌ هو تعبير عن فراغ النُخب على تنوّع تخصّصاتها على ملء حياة النّاس: ملء عقولهم، وملء قلوبهم، وملء بطونهم! فينشأ ناشئ الفتيان منّا فارغاً من الأمل، عاطلاً عن العمل، راغباً في الكسل، يستقبل كلَّ يوم من أيامه وهو لا يدري ما يجب عمله فيه، غير مهتمٍ كيف سيمضي وينقضي، غير شاعرٍ بخطورة ذلك، ولا منتبه لدائه وبلائه! لقد أهاج الفراغ عليه همّاً وأسباب البلاء من الفراغ إنّ الأصل في المسلم أن يكون عارفاً بقيمة الوقت، حريصاً على استغلاله أشدّ الحرص، عارفاً بقيمة الحياة، حريصا على النجاح في امتحانها أشدّ الحرص، لأنّنا دون الناس نعتقد أننا سنحاسب على كل لحظة من لحظات حياتنا: ''لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، أولها: عن عمره فيما أفناه''. فلا يقبل من مسلم أن يهدر وقته، ويترك نفسه نُهبة للفراغ، ولا يعقل من مسلم أن تضيع عليه الحياة، ويسلمها لشقاء الفراغ!! ولله درّ الصّحابيّ الحبر بن مسعود رضي الله عنه: ''إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً، لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته''. لقد قال الحكماء: الواجبات أكثر من الأوقات، وهذه حقيقة يعرفها كلّ من تعنّى المسؤولية، وكلّ من رام تحقيق هدف وبلوغ غاية، أوليس عجيباً بعد ذلك أن نجد من الناس من فاض وقته واتسع، فلم تصادفه الواجبات إلاّ نادرا، ولم تزاحمه الأشغال إلاّ نزرا! وقال الحكماء أيضاً: لا ينجز الأشغال إلاّ مشغول، وهذا حقّ وصدق، فالذي ينتظر منه إنجاز شيء إنما هو الذي اعتاد الشغل، فلا تلقاه إلاّ مشغولاً، أمّا من اعتاد الفراغ والدَّعَة، فلا تنتظر منه إلاّ الشكوى من العمل والضجر من الواجبات!! إنّ الخروج من حالة الفراغ التي يعيشها كثير منّا واجب الجميع، إذ علينا أن نحاصر الفراغ قبل أن يحاصرنا، فهو واجب كل راشد أنّ يملأ حياته بالمفيد النافع، وواجب كلّ والد ووالدة ومربٍ ومربية أن يملأوا حياة من يربون علماً وعملاً، وأهدافاً وأملاً، وهو واجب الدولة ومؤسساتها أن تضع الخطط، وتسطّر البرامج، وتبني الهياكل، وترصد الميزانيات، لتملأ حياة الناس عامة، وحياة الناشئة خاصة، وإلاّ بقينا رهن الغبن ''نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ''. *إمام مسجد الرّحمن عين النعجة