هو العلامة النابغة والإمام الجليل الذي ربى أجيالا كثيرة أينما حل وارتحل، فهذبها على الخلق الإسلامي القويم.. نذر حياته لتعليم العلم، فكان قطبا للإشعاع النير، إختار الوفاء لوطنه والإنتماء لمجتمعه وبلده لاستعادة مقومات الهوية الوطنية بعد قرن وثلت قرن من سياسات الإستئصال الثقافي الذي لحق بالإنسان والأرض والعرض في هذه الديار، عيِّن في فترة الستينات إماما خطيبا في مساجد مختلفة بالجزائر العاصمة، منها جامع كتشاوة، وجامع المدرسة في سيدي أمحمد (بلوزداد)، وجامع ابن فارس في القصبة، وإنتهى به الأمر في الجامع الكبير الذي بقي إمامه الخطيب إلى غاية سنة 1987، حيث تقاعد عن وظيفة الإمامة، إلا أن هذا لم يثني من عزيمته المتقدة، فلقد واصل التدريس رغم كبر سنه بالمسجد الأعظم وفي داره، من بين مؤلفاته، الفتاوى، الأمانة وأنواعها، مناسك الحج والعمرة، دروس ومبادئ في الصرف العربي، وأخرى. الأكيد أن الكثيرين يعرفونه كون شيوخ العلم الكبار وأساتذة الجامعات الإسلامية هم من طلابه، إنه الأستاذ الفقيه المعمر أدام الله عليه نعمة العافية، مفتي المالكية بالجزائر العاصمة، "محمد بن عبد القادر شارف الحامدي"، أحد العلماء الأجلاء الذين أعطوا حياة متجددة للأمة، برفعها إلى علياء الإنتماء الحضاري الإسلامي والعزة الوطنية. هو من مواليد مليانة سنة 1908م، ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، نجل فاطمة الزهراء، بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد ثبت ذلك بوثيقة، صادق عليها 25 شاهدا مسنِّين مزَكِّين من طرف قاضي الجزائر العاصمة، من عائلة متوسطة الحال، معروفة بالتدين، حافظة لكتاب الله، مشاركة في العلم. حفظ "محمد شارف" القرآن الكريم، وعمره حوالي اثنا عشر عاما، وتلقى مبادئ علوم اللغة والفقه في مسقط رأسه مليانة والمناطق القريبة منها، ومن شيوخه، أبوه الحاج عبد القادر بن الحاج المدني، الشيخ الحاج ابن سهادة، وهو عم أبيه، الشيخ احسين بلحاج بوغرقة، الشيخ مَحمد وكَّال المعسكري الأزهري، الشيخ ابن عودة، الشيخ عبد القادر مساعدية. ثم انتقل إلى الجزائر العاصمة سنة 1932م، فواصل تحصيله العلمي في علوم الصرف، النحو، المنطق والأدب والتاريخ من بعض علمائها، كالشيخ عبد الله الدراجي، الشيخ نور الدين عبد القادر البسكري، الشيخ بن دالي محمود المعروف بالشيخ كحُّول، هذا وقد كان الشيخ حريصا على حضور الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي، من أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، فضلا عن اجتهاده في الاستزادة من بطون الكتب وأمهات المصنفات في شتى الفنون والعلوم. كان الشيخ محمد شارف يجمع بين نشاطي العلم والتعليم في آن واحد، فكان يحضر مجالس العلم عند شيوخه، ثم يعيد ذلك لبعض الطلبة، ولقد تحصل الشيخ على رتبة الإمامة في سنة 1936، ولم يلتحق بالوظيفة إلى بعد سنة 1945، بسبب التجنيد الإجباري الذي فرضه الإستعمار الفرنسي على شعوب المستعمرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وبسبب ذلك كان الشيخ محمد شارف واحد من المعتقلين الذين وقعوا تحت الأسر الألماني في إحدى المحتشدات من سنة 1939م إلى سنة 1944م، ثم تحت سلطة الاستعمار الفرنسي خلال سنة 1945م. غير أن ذلك لم يُعِقْه من مواصلة نشاطه التعليمي، وفقا لما جاء في كتاب "فتاوى" الذي أخرجه أحد تلاميذه الدكتور "محمد إيدير مشنان" عن الشيخ "محمد شارف"، حيث أنه في المحتشد التَفَّ حوله عدد هائل من المعتقلين بعد أن أدركوا مكانته العلمية، فكان يلقي عليهم دروسا في الفقه لعامة الناس، ودروسا في النحو للطلبة الراغبين في تعلم قواعد اللغة العربية. وكان الحاضرون من بلدان كثيرة كالجزائر، وتونس، والمغرب، والسنغال وبعض البلاد الإفريقية والأسيوية. هذا، وكان يتابع دروسه بعض من لا يعرف العربية، فاتخذ الشيخ من يترجم للناس دروسه إلى اللغة الفرنسية التي يفهمها أغلبهم، لأنهم كانوا تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، وبعد إطلاق سراحه عاد إلى الجزائر خلال سنة 1945، أين ساهم كبقية شرفاء هذا الوطن في الثورة المظفرة بماله وعلمه، عُيِّن أوَّلا مؤذنا في الجامع الكبير في الجزائر العاصمة، ثم التحق بوظيفة الإمامة في جامع سيدي رمضان بالقصبة، وفي الجامع الكبير، ليصير بعدها في الستينيات إماما خطيبا في مساجد مختلفة بالجزائر العاصمة، و لم يكن الشيخ مقتصرا على الإمامة، بل كان يعقد مجالس علمية في كل المساجد التي عيِّن فيها، وفي مساجد أخرى يدعوه أهلها إلى تعليمهم. وقد استقطب بنشاطه الدَّؤوب عددا لا يحصى من الطلبة عبر حياته التعليمية التي دامت أكثر من سبعين سنة، منهم من نال الشهادات والدرجات العليا، وعلى سبيل الذكر لا الحصر "كمال بوزيدي"، "مبروك المصري"، "عمار جيدل"، "الإمام الخطيب زين الدين العربي، "محمد دراجي"، "طاهر عامر"، وغيرهم كثر يعدون بالآلاف لايسع المقام لذكرهم، ولا لأية دراسة أن تحيط بهم. ومن بين الكتب التي درّسها الشيخ لطلبته، في القرآن والحديث: شرح الدرر اللوامع لابن بري في روايتي ورش وقالون عن نافع، ومتن الخراز في رسم القرآن، والبيقونية في مصطلح الحديث، وفي العقيدة: متن السنوسية وشرحها، وجوهرة التوحيد وشرحها. وفي الفقه وأصوله: المقدمات الممهدات لابن رشد الجد، مختصر خليل، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومتن ابن عاشر، والمقدّمة العزية للجماعة الأزهرية، والرحبية في المواريث، وورقات إمام الحرمين في الأصول، ومفتاح الوصول للشريف التلمساني، والمدخل لأصول الفقه المالكي للباجقني. في اللغة والمنطق: المقدمة الآجرومية، وقطر الندى، وشذور الذهب لابن هشام، والخلاصة الألفية لابن مالك، ولامية الأفعال له أيضا، والجوهر المكنون في الثلاثة الفنون للأخضري، ومتن السلم للأخضري في المنطق، وغير ذلك من الكتب. قال الدكتور "محمد إيديرمشنان"عن الشيخ "محمد شارف"عليه شآبيب الرحمة أنه "كتاب علم وأخلاق مفتوح بالمعنى الصحيح والقوي لهاته الكلمة، ولم يرى في حياته شخصا مثله، حيث عرف عنه أنه لم يبدأ كتابا إلا وقد أتمه، فالشيخ لا يهمه أن يحضر الكثير أو القليل في مجلسه، بل تهمه بركة العلم وتبليغه، بحيث يقول لهم: "شيوخ العلم أوصوني حتى إذا كانت بضاعة العلم غير رائجة، وتوقف الناس عن طلب العلم، فأن تمشي إلى مجلس العلم وتأخذ ثلاث حجرات وكأنهم الطلبة، وتتم الكتاب الذي بدأته، ويضيف لهم "أنا لا أملك الجواب الذي سأقوله يوم القيامة، إذا سألني صاحب المؤلف لماذا لم تتم كتابي". وذكر "مشنان" من جملة ماعرف عن الشيخ، أنه "شخص متحكم، بحيث يجلس جلسة واحدة في حلقة الدرس لساعات دون أن يغير جلسته، على خلاف الشباب الذين يتحركون في المجلس الواحد سبعين مرة. إضافة إلى ذلك، كان الشيخ يعرف كيف ينتقل بذلك المستفتي من رأي شديد إلى رأي خفيف، وهو مع تمكنه من المذهب المالكي كان متواضعا وحليما يراعي ظروف الناس وضعفهم، فلا يرد أحدا يقصده في أمر يقدر على تحقيقه، بل كان من علماء الجزائر في العاصمة من إذا عرضت عليه مسألة واستعصت عليه أو لم يجد لها مخرجا كان يقول إذهبوا إلى الشيخ محمد شارف، حيث ذكر أنه في إحدى مجالس الشيخ أتته رسالة من أحمد حماني عليه رحمة الله، يقول فيها جأتني مسألة ولا أعرف أين أجدها في مختصر الشيخ الخليل، فيدير الشيخ ظهر الورقة ويجيبه مباشرة. ونوه "محمد إيدير" أن الشيخ درس مع علماء الأزهر في معهد تكوين الأئمة بعين طاية في الستينات، الذين شهدوا له بعلمه وطلبوا أن يعينهم في بعض علوم اللغة، كما قام بزيارة مصر أكثر من مرة، والتقى ببعض العلماء كعبد الحميد كشك الذي شهد له بعلمه، حيث قال لبعض الطلبة كيف تسألونني وفيكم رجل كالشيخ محمد شارف، بل حدث أن الشيخ محمد متولي الشعراوي حضر إحدى دروس محمد شارف بالعاصمة وجلس متواضعا دون أن يعلن عن نفسه، وبعد إتمام الدرس أخبر الحاضرين بعد أن عرفوه، أن درس في مثل هذا المستوى لايسعني إلا أن أجلس مستمعا إليه". أكد الأستاذ أبو بكر بوسام، أن الشيخ حكيم قلب ومنطق، دؤوب على المطالعة والمراجعة والبحث، وما زاره زائر إلا وجده منكبا على كتابا يطالعه أو يصححه أو يشرح معانيه شأن العلماء الأوائل حتى أثر ذلك على بصره، مضيفا أن الشيخ كان ولايزال يقوم بقضاء حوائج من قصده، فهو من الذين يفزع إليهم الخلائق وتقضي على أيديهم الحوائج بإذن الله عزوجل، ومما ذكره أبوبكر في كتابه "إنباء الخلف برجال السلف"، أنه في إحدى المرات قام الشيخ بزيارة إبنة صديق أصابها مرض "خبيث" قصد الدعاء لها، فأخذ بالرقية لها وقراءة القرآن والدعاء، وقال لها، والله والله والله ستشفين، فلما سئل عن سبب إقسامه، رد قائلا: "إن الله لايحنث عبده المؤمن، ولم تمر أشهر حتى أخبره والد البنت بأن الطبيب أطلعه أن السرطان الذي أظهرته الأشعة فيما سبق لا أثر له"، وهذا من بين ما أمده الله من رضا أشياخه وحسن نيته، فرزقه الله المحبة والقبول الرباني. ذكر الأستاذ والإمام إلياس آيت سي العربي، أنه لازم الشيخ بعد تخرجه من معهد تكوين الأئمة في التسعينات، و إستفاد بكثرة من دروسه بالجامع الكبير والجديد، بالإضافة إلى السفريات التي كان يقوم بها إلى ولاية أدرار، ويتم خلالها زيارة زاوية الشيخ محمد الكبير، وكذا كبار العلماء أمثال الشيخ الحسن بن عبد الرحمن الأنصاري. وكشف إلياس أن رحلاته مع الشيخ في الطائرة تعلم منها كيفية إستثمار الوقت في المذاكرة و المطالعة، حيث كانت لا تمر برهة من الزمن إلا في تدارس متن من المتون أو الحديث عن مسائل تخص الشريعة أو التاريخ أو نصائح عامة. وأوضح أن الشيخ لم ير قط غاضبا، وكان يستخدم الأسلوب السهل الممتنع في التدريس ولا يحبذ التطويل الممل، إلى جانب تميزه بروح الدعابة، وقدرته على إدخال السعادة في نفوس طلابه وكل الذين عرفوه من خلال استعمال النكت وقصص طريفة تجعل الحديث معه ينعش النفس. أي أمة هاته التي تهضم حق عالم على قيد الحياة! من كثرة الصفات الحميدة التي يتمتع بها الشيخ والموصولة بحبل النبوة، ارتأت "الأمة العربية" زيارة الشيخ الجليل بمنزله المتواجد بإحدى ضواحي العاصمة، ويعود الفضل في ذلك بعد الله لأحد طلابه المخلصين الذي قادنا إلى مكانه، وكم كانت سعادتنا كبيرة لما رأينا طلعته البهية، المنشرحة الصدر، و أطيب الكلم الذي كان يتفوه به من دعاء أو قرأن، فأدركنا قيمة هذا العلامة الفقيه الزاهد. ومما أثر في نفوسنا وقلب المواجع علينا، معرفتنا أن البيت الصغير الذي يسكن فيه الشيخ رفقة عائلته، استأجره له مؤخرا بعض طلابه الذين أبوا إلا أن يقدموا واجبا صغيرا تجاه أبيهم ومعلمهم ومربيهم، بعد أن عانى سنين في سكناه القديم بحي باب الوادي بالعاصمة، حيث كاد أن يبيع كتبه من شدة الضيق، أمام عدم إكتراث الهيئات الثقافية والدينية ببلادنا بتوفير الحياة الكريمة لعلمائنا وهم الذين لايسألون الناس إلحافا. فأمثال الشيخ ممن أكرم الله أمتنا بهم، ينبغي أن نضعهم كتاج ونبراس وهاج يضيء دربنا في ظلمة الفتن وكثرة المفاسد، لأن عزة الأمة بعزة علمائها، فهم مصانع الفكر ومنابع القيم والأخلاق، والعارف لحال أمتنا العربية يدرك سبب وهنها وضعفها بين الأمم، سوى أنها لم تبجل علمائها، وإلا كيف يهضم حق هذا العالم وهو حي يرزق ظل ولازال يبث الأفكار النيرة في الناس لتغدو نفوسهم أكثر صفاءا ونورا ويحسسهم بالجمال، فيبصرون طريق الحق. والسؤال الذي يبقى مطروحا، هل من إلتفاتة من قبل السلطات الوصية ؟ لهذا الرجل البحر، والذي لم يسع يوما في طلب المال أو النفوذ أو المناصب الزائلة، وسبيله في ذلك ما قاله شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء: "هو العلم إن حل الرفات أنالها حياة بلا موت وعيشا لآماد والدين إن الدين أعظم عدة فبدونه تغدو الشعوب هباء".