انقضى شهر الصّيام، شهر القيام والقرآن، شهر البرّ والجود والإحسان، رَبِح فيه مَن ربح وخَسِر فيه مَن خسر، فمَن كان يعبُد رمضان فإنّ رمضان قد فات، ومَن كان يعبُد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت. فضّل الله سبحانه وتعالى شهر رمضان على سائر الشّهور والأزمان، واختصّه بكثير من رحماته وبركاته، ويسّر الله فيه الطّاعة لعباده ممّا لا يحتاج إلى دليل أو برهان، وبعد أن أقبَل النّاس على طاعة الله وعبادته، وعطّروا بأنفاسهم الزّكية المساجد في رمضان، ها هم يعرضون عن طاعة الله ربّ العالمين بعد رمضان، وكأنّهم في رمضان يعبدون ربًّا آخر، فانظر إلى المساجد في رمضان، وانظر إليها بعد رمضان! إنّ الصّيام يؤثّر في تغيير عادات وسلوكيات المسلم، فيتحوَّل من غافل عاصٍ إلى تائب منيب، ويتخرَّج العبد سنويًا من مدرسة الصّوم بعد 30 يومًا بشهادة تَفوُّقٍ تؤهّلُه إلى الفرحة الكبرى يوم يلقى الله عزّ وجلّ، لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''للصّائم فرحتان يفرحهما، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه''. وعلامة ذلك أن يُواظب العبد على إقباله على الله عزّ وجلّ، وأن يستمر على عباداته ولا ينقطع عن عمله الصّالح، من مواظبة على صلاة الجماعة في المسجد، فلا يهجرها وينقطع عنها ويعود إلى سيرته الأولى. وأن يواصل ارتباطه بالقرآن الكريم ولا يهجره بقية العام، ويحذِر أن يندرج مع هؤلاء الّذين حذَّر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم منهم في القرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} الفرقان:.30 فما منّا أحد إلاّ وتاب وأناب إلى الله تعالى في رمضان، فهل معنى ذلك أنّه إذا انتهى رمضان انتهى زمن التوبة ولا نحتاج إلى توبة وأوبة إلى الله جلّ وعلا؟! وانظر إلى حال الكثير من المسلمين، إذ تجد الكثير منهم ينفلتون يوم العيد إلى المعاصي والشّهوات وكأنّهم كانوا في سجن، وبمجرّد أن تمّ الإفراج عنهم، انكبّوا على أنواع المعاصي والشّهوات، والعياذ بالله، وقد كان المعصوم صلّى الله عليه وسلّم يقول: ''والله إنّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة''، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. وإذا كنتَ تُحافِظ على الأذكار والاستغفار في رمضان، فهل تستغني عن هذا الزّاد بقية العام، إنّ الذِّكر شفاء من الأسقام ومرضاة للرّحمن ومطردة للشّيطان، فرطِّب لسانك دومًا بذِكر الرّحيم الرّحمن جلّ وعلا، واسمع لحبيبك المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث الّذي رواه أحمد والترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ''ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟'' قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ''ذِكرُ الله عزّ وجلّ''، رواه مالك والترمذي وابن ماجه. وفي رمضان وُفِّقت بفضل الله ورحمته ومنّته إلى صلاة التّراويح والقيام، فلماذا لا تستمر على هذا الدرب المنير؟ ولماذا تضيّع القيام باللّيل، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''عليكم بقيام اللّيل فإنّه دأبُ الصّالحين قبلكم وقُربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيِّئات''، رواه الحاكم وابن خزيمة والترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ويا مَن قد منَّ الله عليه بالإنفاق على الفقراء والمساكين وكثير من أوجه الخير في رمضان، فهلا عوّدْتَ نفسك على الإنفاق حتّى ولو بالقليل بعد رمضان، حيث ترى كثيرًا من النّاس لا تظهر عليهم علامات الجود والكرم إلاّ في رمضان فقط، فإذا ما انتهى رمضان لا تجد إلاّ العبوس في وجه الفقراء، ولا تجد إلاّ البخل والشحّ. فاستعِن بالله ولا تعجز، واتّقيه ما استطعتَ، واطلب المَدد والعون منه سبحانه وتعالى أن يُثبِّتَك على طريق طاعته وعلى درب نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتدبّر وصيته عليه الصّلاة والسّلام لمعاد بن جبل رضي الله عنه: ''اللّهمّ أعني على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك''، رواه أبو داود والنسائي والحاكم.