يقال إن ''الميت أولى بالتكريم، فالحي لا تؤتمن عاقبته''. وانطلاقا من ذلك، فإنني تردّدت كثيرا قبل أن أخطّ هذه الكلمات، ثم انتهيت أخيرا إلى ضرورة تدوينها ونشرها، نظرا لأهميتها التاريخية، باعتقادي المتواضع، وللأمانة العلمية أيضا، وحتى لا تبقى حبيسة صالات الجامعة. كما إنها قد تساهم، ولو بقسط يسير، في فهم وتحليل شخصية الراحل محمد بوليفة، والتعريف به أكثر، وبإبداعاته. تلك الإبداعات التي ستظلّ، من دون شك، راسخة في مدوّنة الفن الجزائري، كعلامة بارزة وبصمة بازغة تؤرّخ لمرحلة هامة من تاريخ الفن الجزائري. لا يمكن تصوّر أي عمل سمعي بصري من دون عنصر الموسيقى التصويرية. فلقد أدرك السينمائيون أهمية دور هذه الموسيقى في أفلامهم، منذ عصر السينما الصامتة وإلى غاية العصر الحالي. نفس الفكرة صالحة لكل من المسرح والتلفزيون والدراما والبرامج الإخبارية اليوم. يكفي سماع قطعة موسيقية ما لنتعرّف على هذا العمل أو ذاك. هناك أسماء عالمية لامعة في هذا المجال أبدعت بإنجازاتها. ويستلزم تأليف الموسيقى التصويرية لأي عمل توفّر التكوين والموهبة معا، والمرحوم محمد بوليفة كان واحدا ممن توفّر فيهم الشرطان. لم ألتق محمد بوليفة مباشرة، بل عرفته من خلال أحاديثه الإعلامية وإنتاجه الفني الذي عكفت وسائل الإعلام على تقديمه لسنوات، ثم تشرّفت به كصديق عبر شبكة التواصل الاجتماعي ''فيسبوك''. وسنحت لي فرصة مكالمته هاتفيا بداية شهر جوان الفارط، وكان ذلك في إطار بحث أكاديمي حول ''دور مؤلف الموسيقى التصويرية'' في الإذاعة والتلفزيون، من خلال السينما والدراما والبرامج الإخبارية، حيث لم أجد يومها، ولتدعيم الجانب النظري، غير الاتصال بالمرحوم بهدف محاورته بخصوص تجربته في هذا المجال، فكان ذلك. غير إنه اعتذر، في لطف، عن إمكانية إجراء الحوار وجها لوجه، وفضّل الاكتفاء بحديث عبر الهاتف. وكانت المفاجأة في التصريح الذي أعرب عنه، حيث قال إنه لا يوجد مصطلح يسمى ''مؤلف الموسيقى التصويرية''، ولا حتى مهنة تحمل نفس الاسم! ''أنا لا أومن بهذا المصطلح إطلاقا.. لماذا؟ ببساطة، لأن هذه التسمية غير موجودة في أي لغة أجنبية أخرى، سواء كانت فرنسية أو إنجليزية. داومنا نحن على استعمالها خطأ، من دون أن ندرك حقيقتها ومدلولها.. لكن هذه المهنة موجودة فعلا في الغرب؟ لا، هي غير موجودة أصلا، في هوليود مثلا، يوجد أشخاص مهنيون مختصون في الصوت والمؤثّرات الصوتية، ولا يمكن الجزم أنهم مؤلفون للموسيقى التصويرية.. بمعنى؟ بمعنى أنه يوجد موسيقيون وفقط، يُطلَب منهم تلحين قطعة موسيقية لعمل درامي، تلفزيوني أو مسرحي أو سينمائي، لا أكثر ولا أقل.. لكنك واحد من الملحّنين الجزائريين الذين ألّفوا موسيقى بعض الأعمال! نعم، هذا صحيح، لكنها تبقى أعمالا قليلة، أي لا يمكنني الادّعاء أنني مختص في شيء اسمه الموسيقى التصويرية،، والتي تعتبر هامة وأساسية''. أعترف أن هذا الرأي صدمني في البداية، فهو لا يتفق مع رأي المنظّرين، ويختلف مع ما هو قائم لحدّ الآن، ولم يكن من السهل التفريط في ''معتقد قديم متجذّر''. لكنني استسغت رأي فناننا المرحوم فيما بعد، بل واحتضنته وصرت من المدافعين عن فكرة عدم صحة القول بوجود مؤلّف للموسيقى التصويرية، وهو رأي وجدته أقرب إلى الواقع والمنطق بعد تخمين ليس بالقصير. يحدث ذلك في وقت يصرّ باحثون ومؤلّفون ومختصون على القول بوجود مؤلّف مختص في الموسيقى التصويرية، دون غيرها من الأنواع الموسيقية، بل ويعطون هذه المهنة تعريفات بعينها وشروطا ومبادئ. يبقى أن نشير إلى أنه، وعلى الرغم من أن المرحوم محمد بوليفة كان فنانا بارعا وموسيقارا ماهرا، فإنه تميّز عن عدد من المبدعين الجزائريين في مجال تخصّصه، بالجمع بين مواهب كثيرة في الآن ذاته، هي الغناء والعزف على آلة العود والتلحين وإدارة معهد للموسيقى. ولسنا هنا في حاجة لتذكير الناس بروائع الراحل، الذي تفرّد في وضع الألحان لأغان كلماتها من العربية الدارجة، بنفس الجمال والروعة اللذان نجدهما في أغان أخرى من الشعر الفصيح. لقد غنى لكبار الشعراء وألّف لكبار الأصوات. ربما لم يكن صوت بوليفة قويا بالقدر اللازم، لكنه كان يوظّف طبقة صوتية خاصة به، تلائمه للغاية، فاحتضنه الناس وتلقفوا روح رسالته المنبعثة. [email protected]