إلى أي حدّ تستطيع الرواية أن تجسّد أحداث الزمن الغابر؟.. وكيف يتمكّن الأديب من الكتابة عن تلك الوقائع بشكل أدبي متميز؟.. وما نصيب الحقيقة والأسطورة في الرواية التاريخية؟.. تساؤلات مثيرة للجدل، واجهتني من جديد بعد مصافحة أديبنا واسيني الأعرج، من خلال الحوار الذي أجراه معه الكاتب الصحفي المتميز حميد عبد القادر، ونُشر يوم 9 فيفري الماضي بجريدة ''الخبر''. لعل أهم ما استوقفني في الحوار رأي واسيني في صلة الأديب المعاصر بسلطة التاريخ الغابر، حيث قال: للتاريخ شروطه العلمية طبعا وطريقته في استيعاب الحقائق، لكن للرواية وسائطها في استعمال التاريخ، فهي لا تعيد إنتاجه، وإن استأنست به، والاستئناس يعني، بالضرورة، أنك تشتغل في أفق مؤسس على العلم والتدقيق، والرواية، أحيانا، أقوى من التاريخ ويجب أن تخرج من سيطرته. وقد وجد أديبنا واسيني ضالته المنشودة والمرغوبة، وميدانه الخصب الشاسع في مرافقة ومؤانسة عدد من الشخصيات الوطنية العظيمة، في لحظات تأمل وقراءة واعية متأنية للجوانب الإنسانية المنسية لبعض الأحداث والمواقف التي أهملتها أو أغفلتها الكتابات التاريخية، فاستلهم منها مادته الثرية لأعماله الروائية الكبرى، خاصة كتاب الأمير، البيت الأندلسي، جملكية أرابيا، وأصابع لوليتا.. وظل صاحبنا واسيني الأعرج شغوفا برواية التاريخ، أسيرا داخل بنايته الشاهقة، بجدرانها السميكة وأعمدتها الرخامية المتينة. هكذا عرفته، بعد أن جمعتنا، ولا تزال، صداقة معمقة معتقة، عبر أزيد من ثلاثين سنة، منذ أن كان طالبا طموحا، صحبة رفيقة العمر الشاعرة زينب الأعوج بجامعتي وهران ودمشق، قبل أن تلتقي نشاطاتنا وكتاباتنا على صدر الصحافة الوطنية، وخاصة من خلال ملحق النادي الأدبي لجريدة ''الجمهورية''، الذي يفتخر بكتاباته الأدبية والنقدية. ومازلت أعتز بأول إنتاج أدبي لصديقي واسيني أحتفظ به في مكتبتي الخاصة، عبارة عن أول محاولة روائية أطلق عليها وقتئذ اسم ''جغرافية الأجسام المحروقة''، انتهى من كتابتها في تلمسان بتاريخ أول جانفي 8791، ولم يبلغ بعد 52 سنة. ويبدو أن هذه النسخة نفيسة ونادرة، وقد أهملها الكاتب ضمن قائمة مؤلفاته، التي تبدأ برواية وقائع من أوجاع رجل (0891).. لتتواصل أعماله الصادرة داخل وخارج الوطن إلى غاية رواية ''أصابع لوليتا''، الصادرة في مارس 2102. وقد ترجمت بعض أعماله الروائية إلى عدة لغات أجنبية، من بينها الفرنسية والألمانية والإنجليزية. ويتجلى شغفه بينابيع التاريخ من خلال روايته ''البيت الأندلسي''، حيث اشتغل حول موضوع الموروث والذاكرة وإشكالية التراث المعماري الذي أبدعه عرب الأندلس في الفردوس المفقود. غير أن أهم رواية في هذا المجال هي ''كتاب الأمير''، وتعتبر أول تجربة روائية عن بطل المقاومة الجزائرية الأمير عبد القادر، تستند إلى المادة التاريخية، وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله، من خلال الاستماع إلى أنين الناس وأفراحهم وانكساراتهم. ويشتمل ''كتاب الأمير'' على دروس وعبر في حوار الحضارات ومحاورة عميقة بين المسيحية والإسلام، وغرس بذور التسامح والمصالحة، التي تفضي إلى إعادة تشكيل وعي كل الذين انغمسوا في حروب، وجد الأمير فيها نفسه على حافة قرن ينسحب بكل أشواقه وهزائمه، وقرن جديد كانت فيه الآلة والبارود سيدتا الحروب والتطور. وهذا العمل الروائي المتميز حافل بالعديد من التساؤلات والدلالات، ويستحق بالفعل أن يتوج كتجربة جزائرية جديدة رائدة في كتابة الرواية التاريخية. وجاءت روايته الأخيرة ''أصابع لوليتا'' لتلتفت إلى شخصية الرئيس المرحوم أحمد بن بلة، ومعاناته القاسية داخل السجن من دون محاكمة، حيث قال واسيني في الحوار المذكور: كان يهمني في الجانب الإنساني. وجود بن بلة يجب أن يقرأ في هذه الرواية من زاوية الظلم، إذ بأي حق ترمي إنسانا منح حياته للبلاد في سجن جهنمي.. وفي انتظار جديد أديبنا واسيني، في كتابة روايته المنتظرة من وحي الحركة الوطنية وثورة التحرير، يعود التساؤل الجوهري ليطرح نفسه من جديد: إلى أي حد تستطيع الرواية المعاصرة أن تجسّد معاني ودلالات الأحداث التاريخية؟.. [email protected]