تواصل ''الخبر''، لليوم الثاني، نقاشها الهادئ مع مساهمة الدكتور رابح لونيسي، أستاذ التاريخ بجامعة وهران، حول الأفكار التي وردت في الحوار الذي أجرته مع المرحوم أحمد مهساس، والذي أثار ردود أفعال متباينة، بخصوص مواقفه من حرب التحرير. وإذ تنشر ''الخبر'' هذا الرد، فإنها تؤمن أن ما يقوله الفاعلون التاريخيون عبارة عن مجرّد شهادات قابلة للنقاش، وليست عبارة عن تاريخ في شكله العلمي الذي يكتبه المؤرخ. إن تهجم مهساس وبن بلة على شهداء أبطال، وعلى رأسهم عبان رمضان، يعود إلى اختلاف في الرؤى، وسنبيّنها من خلال عدّة تساؤلات، ونترك الحكم للقارئ. فهل أذنب عبان ورفاقه أنهم أصرّوا على انخراط كل الأمة الجزائرية في الثورة، بكل أطيافها الايديولوجية والثقافية وشرائحها الاجتماعية، ما يعني أيضا أن تكون دولة الاستقلال هي دولة الأمة كلّها، وليست دولة حزب أو مجموعة، على عكس بن بلة ومهساس اللذين أرادا إبقاء الثورة حكرا على مجموعة صغيرة، ومنهم عبان ورفاقه، كي يأخذوا مكان المعمّر في دولة الاستقلال وتهميش غالبية الشعب، كما وقع عام 1962؟ وهل ذنب عبان أنه تجاوز الأحقاد الناتجة عن الصراعات الحزبية قبل عام 1954 وشجع خصومه الحزبيين، من العلماء والبيانيين بقيادة فرحات عباس والشيوعيين وغيرهم، على الانخراط في الثورة لتحرير البلاد، على عكس بن بلة ومهساس اللذين بقيا سجناء تلك الأحقاد، بل لم يتخلصا منها حتى مع عبان وآخرين، بعد أكثر من خمسين سنة؟ وهل ذنب عبان ورفاقه أنهم أقاموا في مؤتمر الصومام نواة دولة الأمة الجزائرية كلها، عندما أنشأوا مجلسا وطنيا للثورة يجسد السلطة العليا للأمة، لأننا نجد في المجلس ممثلين عن كل التوجهات الايديولوجية والثقافية والشرائح الاجتماعية السائدة، آنذاك، وكل مناطق الجزائر، قبل أن يتم الانقلاب على ذلك في مؤتمر القاهرة عام 1957 تحت ضغط مصري بواسطة فتحي الديب، لأن مصر خشيت أن تعطي الجزائر، بعد استرجاع استقلالها، نموذجا ديمقراطيا واجتماعيا سيقلق مصر عبد الناصر التي احتكر فيها القوميون العرب الإقصائيون السلطة والثروة؟ وهل ذنب عبان أنه أصرّ على دخول كل العسكريين المتواجدين وراء الحدود إلى الجزائر، وأطلق عبارته الشهيرة ''إن الثورة في جبال الجزائر، وليس في قصور تونس والمغرب''، وذلك تطبيقا لمبدأ الصومام ''أولوية الداخل على الخارج''؟ كم تمنينا أن يوضح لنا مهساس كيف تحرّكت مصر ضد مؤتمر الصومام، لأنه وضع عدّة مبادئ لا تخدم بن بلة ولا مصر ونزعتهم الايديولوجية، ومنها إصرار الوثيقة على أولوية الداخل على الخارج، ونصها على أن الجزائر لن تكون تابعة ''لا لباريس، ولا موسكو، ولا واشنطن، ولا القاهرة''، ما أثار حفيظة عبد الناصر، ودفع عبان حياته ثمنا لذلك. ولم يشر مهساس إلى البلبلة التي أثارها على الحدود الشرقية واستخدامه لشتى الأساليب، لأن مؤتمر الصومام أعطى الشرعية للداخل، ورفض تبعية الجزائر للقاهرة، وفضل أن تكون ''الجزائر قبل كل شيء''، كما قال بوضياف. وقد اعترف مهساس، في شهادته، بأنه بمجرد ما أصبحت الاجتماعات تعقد في الخارج، خاصة في مصر، انتهت ما يسميها ب''جماعة عبان'' لصالح جماعته هو، لأن مؤيدي عبا، حسب مهساس، هم مجاهدو الداخل، وهو ما يعني أن مؤيديه هو وبن بلة في الخارج، خاصة مصر، ويبدو أنه نفس ما تكرّر في أزمة صيف .1962 ونتساءل: لماذا سكت مهساس عن قضية الرسالة التي كتبها بإيحاء من بن بلة، يحرّض فيها ضد القيادة العليا للثورة التي اكتوت بداخل الجزائر، ونشرتها وسائل الإعلام الفرنسية، وأصبحت أداة المخابرات الفرنسية لزرع البلبلة؟ ولم يقل لنا لماذا ذهب إلى ألمانيا بعد هذه الواقعة، ولم يعد إلا بعد استرجاع الاستقلال؟ كان على مهساس أن يبحث عن أسباب تهميشه في آليات النظام الذي ساهم في إقامتها هو وبن بلة وبومدين وآخرون عام 1962 بدعم مصري، قبل أن يستخدمه بومدين ضد صديقه بن بلة عام 1965 ثم يبعده نهائيا من حقه في جزائر الاستقلال، ومن مكانته في التاريخ التي لا ننكرها، ثم يتهمه ظلما بأنه اختلس أموال وزارة الفلاحة. كان بودّنا أن يتحدث مهساس عن الذين همّشوه بعد انقلاب 1965 ويفضحهم، بدل محاولات تقزيمه لشهداء يحملون مبدأي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي يجب أن تسود بعد استرجاع الاستقلال، لأنها لو طبقت، لما وجد مهساس نفسه منفيا من نظام بومدين لسنوات، مثله في ذلك مثل الكثير من المجاهدين الكبار. وتمنينا أن لا يكرّر المجاهد مهساس نفس ما قاله صديقه بن بلة في حواره مع قناة ''الجزيرة''، حيث شكك في عبان، لأنه كان في خصومة معه، ولم يأخذ بعين الاعتبار استشهاده، هذا في الوقت الذي صرّح بأنه غفر للذين انقلبوا عليه عام 1965 وسجنوه، ورفض الحديث عنهم لأنهم لا زالوا في السلطة. ونعتقد، اليوم، أنه بدل شغل جيل الاستقلال بنقاشات عقيمة والمساس بالشهداء ونقل صراعاتهم القديمة إلى هذا الجيل، والتي نخشى أن تتحوّل إلى ثقل تاريخي سلبي، نفضل من هؤلاء المجاهدين أن يضعوا اليد في اليد ويلتحموا مع جيل صاعد مؤمن بمبادئ الثورة الحقيقية، لبناء جزائر المستقبل، وإعادة إبراز وهج الثورة ونصاعتها، بإقامة نموذجها ''الديمقراطي والاجتماعي'' الذي استبعد منذ عام .1962 وإلا، سيأتي جيل سيمحو كل شيء، ويصبح لا يؤمن بهذه الثورة العظيمة، ويفعل في البعض ممن يسمون أنفسهم ب''الأسرة الثورية'' نفس ما فعلته الثورة الفرنسية مع طبقة النبلاء في أواخر القرن .18 الجزء الثاني والأخير