يعتبر الاحتفاء بالكتاب وحفظ متنه وتقديسه وتوارثه مظهرا دينيا وثقافيا واجتماعيا عند الجزائريين، وعلينا اليوم إعادة الاعتبار لمثل هذه القيم، وتقديمها للناشئة بطريقة جديدة في ظلّ الوسائط الاتصالية الرقمية. وقد بلغ الأمر عند بعض الجزائريين درجة القسَم ''الحِلف'' بالشيخ خليل، صاحب ''المختصر'' في الفقه الشهير المحفوظ على ظهر قلوب طلبة العلم إلى اليوم في الزوايا والمدارس التقليدية، ويتبّركون بتسمية أبنائهم باسمه ''خليل''. كما أبدع واجتهد علماء جزائريون في شرحه، منهم ''الشيخ مصطفى الرماصي''، من رماصة معسكر، الذي لم يعترف ببعض شروحات المشارقة، وبيّن خللها وتناقضها. وقبله صحيح البخاري، الذي يعتبر من أقدم الكتب المتداولة عند المغاربة، كما إن من شراحه الأوائل نصر بن أحمد الداودي التلمساني، من علماء القرن الرابع الهجري، سمى شرحه ''النصيحة في شرح صحيح البخاري''. تذكرت ذلك بداية هذا الأسبوع، حين شرع مشايخ وأئمة في قراءة ''ختمة البخاري'' بالمسجد الكبير بالعاصمة، وهي تقليد ثقافي روحي تعليمي يعود لقرون خلت في بعض مدن الجزائر، ومنها منطقة توات، وكان الأجدر بثّ ذلك مباشرة في قنواتنا، خصوصا المتخصّصة في المجال الديني، لتبرز للرأي العام هذا الاحتفاء الديني والعلمي بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. يتحدث الرحالة ابن حمادوش، في رحلته الشهيرة ''لسان المقال في البناء عن النسب والحسب والحال'' زمن الأتراك، التي حقّقها أبو القاسم سعد اللّه، أن قراءة صحيح البخاري كانت تبدأ مع منتصف شعبان لتنتهي نهاية شهر رمضان. وفي كتابه هذا يشرح لنا طريقة سَرد ''البخاري'' في الجامع الكبير بالعاصمة، حيث يتداول على فصوله كل يوم شيخ من الشيوخ، ما يسمى ''الوظيفة''، ثم يكون الختم بالصلاة على النبي عليه السلام ويُرشّ الحاضرون بماء الورد، وأحيانا يتوافق ذلك مع ليلة القدر وتنتهي بالتسبيح وقراءة الفواتح، ثم يكملون مسيرتهم الروحانية بعد الفجر بزيارة ضريح العالم المفسّر عبد الرحمن الثعالبي، ومرات أخَر يُكملون ختم البخاري عند الضريح، ويبقوا هناك يوما أو يومين إلى حين العيد. قراءة صحيح البخاري كانت تقليدا في الجزائر، وهو مظهر معرفي، فالمعرفة أساس كلّ حضارة وعماد الدين الذي نريد له الانتصار، ويبقى نورا مشعا في وجه الذين يحاولون تشويه صورته، ولقد تزاوجت، أحيانا، المعرفة بالجهاد، فصحيح البخاري كان يردّده الطلبة ''أي حفظة القرآن'' والفقهاء بصوت قوي كدويّ النّحل وهم يحاصرون الإسبان، في بجاية ودلس، ووهران على جبل المائدة سيدي هيدور الذي ذهب اسمه وعدنا نستعمل ''سانتا كروز'' على اسم الكنيسة التي تقع فوق هضبته، بل حتى الاسم الشعبي الشائع، والذي وضع قصدًا للرد على الحملة الصليبية ''جبل مولاي عبد القادر'' لم نعد نستعمله. في مغارة هذا الجبل، وغيره من ثغور الجزائر الساحلية، خُتم البخاري بصوت كانت تردّده الصخور، ويبلغ صداه إلى آذان الإسبان والمحتلين في قلاعهم، فيحدث الخوف والارتجاف، وبالنهار يناوشون ويحاربون. إنها المعركة التي تحضر فيها القوة والعقل، ولقد كان تقليدا قراءة البخاري قبل المعركة أو بعدها. وقد عرف ذلك، أيضاً، في معارك الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان يملك نسخة خاصة به. هل هي الآن في المتحف الوطني أم ضاعت مثلما ضيّعنا العديد من آثارنا؟ [email protected]