تختلف الأنظمة السياسية في العالم باختلاف تطبيقاتها لمبدأ الفصل بين السلطات الذي جاء به الفقيه الفرنسي منتسكيو (9861 5571)، والذي قسم السلطات في الدولة إلى ثلاث: تشريعية، تنفيذية وقضائية، من منظور أن اجتماع هذه السلطات في يد الحاكم الواحد مدعاة للاستبداد والتسلط، وصاغ مقولته الشهيرة السلطة توقف السلطة. على هذا الأساس، أخذ النظام الرئاسي الأمريكي بالفصل الجامد بين السلطات، مع استحالة تطبيق ذلك من الناحية العملية، مع ترجيح كفة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وعلى العكس من ذلك، سار نظام الجمعية السويسري (المجلسي) إلى ترجيح كفة البرلمان على السلطة التنفيذية. إلى جانب ذلك، توجد المساواة والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في النظام البرلماني الإنجليزي. ولكن الجنرال ديغول، وبعد انهيار الجمهورية الرابعة ورغبة منه في الاستقرار السياسي، زاوج بين النظام الرئاسي والبرلماني من خلال دستور 1958، وهو ما يعرف بالنظام شبه الرئاسي. والجزائر على أبواب التعديل الدستوري، فما هو النظام السياسي المناسب للجزائر؟ فإذا علمنا أن النظام البرلماني، رغم محاسنه الديمقراطية إلا أنه يعاب عليه عدم الاستقرار السياسي ولابد لتحقيقه وجود بيئة سياسة ورسوخ ديمقراطي عريق، إضافة إلى أحزاب سياسية حقيقية ذات تكوين سياسي فعّال، خصوصا أن تطبيق النظام البرلماني في دول العالم الثالث جاء مشوّها ولم تكن التجربة مشجعة، حيث تحوّل النظام البرلماني في لبنان إلى اصطفاف طائفي بامتياز، وفي العراق إلى استبداد مذهبي ديني. أما نظام الجمعية السويسري، فهو نظام بعيد المنال (علامة سياسية خاصة بسويسرا)، يستحيل تطبيقه في باقي الدول، نظرا لخصوصية المجتمع السويسري وطبيعة هذا الأخير الاجتماعية والنفسية. إذن، ليس هناك بديل عن النظام شبه الرئاسي الفرنسي، أو النظام الرئاسي الأمريكي. النموذج الفرنسي.. رئيس الجمهورية حكم بين السلطات لقد كرّس دستور 23 فبراير 1989 مبدأ الفصل بين السلطات في النظام السياسي الجزائري، على عكس دستور 1976 الذي جاء متأثرا بالفكر الاشتراكي، والذي يقوم أساسا على فكرة وحدة السلطة والحزب الواحد. وقد كان دستور 1989 بحق فتحا جديدا في مجال الديمقراطية والحريات في الجزائر، إذ نص، لأول مرة، على حرية إنشاء الأحزاب السياسية (م40)، الجمعيات ذات الطابع السياسي، كما نص على ازدواجية السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة (م76 م19)، إذ يحق لرئيس الجمهورية حلّ البرلمان ويحق للبرلمان مساءلة الحكومة (نظام شبه برلماني)، إضافة إلى استقلالية السلطة القضائية (م129). كما نص على الرقابة الدستورية التي غيّبت في دستور 1976 إضافة إلى الهيئات الاستشارية (المجلس الإسلامي الأعلى، المجلس الأعلى للأمن ) وتم تعديل دستور 1989 في 28 نوفمبر 1996 الذي تم بموجبه تكريس الازدواجية على مستوى السلطة التشريعية (م98) والمجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وازدواجية على مستوى السلطة القضائية (م152)، قضاء عادي (عدلي) وقضاء إداري. ويبدو المؤسس الدستوري الجزائري قد أخذ بالنموذج الفرنسي، حيث اختار الجنرال ديغول الاستقرار السياسي على حساب النظام البرلماني الذي أطاح بالجمهورية الرابعة، إذ يتم انتخاب الرئيس مباشرة من طرف الشعب، الأمر الذي يجعله في مركز قوي في مواجهة البرلمان ويمكنه من حلّ هذا الأخير، كما يمكنه من تعيين الوزراء بعد استشارة رئيس الوزراء. هذه الحكومة المنبثقة من الأغلبية البرلمانية قد تطرح الكثير من الإشكالات، خصوصا في حال وصول رئيس للجمهورية من غير الأغلبية البرلمانية، وهو ما يعرف في الفقه الفرنسي بحالة التعايش أو (السيطرة المجزأة). وهنا، يجد الرئيس نفسه في وضعية حكم بين السلطات، يتولى السياسة الخارجية والدفاع، حيث يضمن استمرارية مؤسسات الدولة، بينما يتولى رئيس الوزراء السياسة الداخلية، ويسهر على تطبيق القوانين (م02 م12) من دستور فرنسا (1958). وقد حدث ذلك فعليا سنة 1986 حيث وجد الرئيس ميتران الاشتراكي نفسه مضطرا للتعايش مع شيراك الديغولي، ووجد هذا الأخير نفسه مضطرا للتعايش مع ليون جوسبان سنة 1997 وهي فترة صعبة في النظام السياسي الفرنسي. وفي الجزائر، حدث ذلك بعد انتخابات 2004، حيث وجد الرئيس نفسه في مواجهة أغلبية برلمانية موالية لبن فليس، فاضطر رئيس البرلمان للاستقالة، ثم التوجه بعدها للنظام الرئاسي في التعديل الدستوري 2008 رغم أن كثيرا من فقهاء القانون الدستوري في الجزائر يصنفون النظام السياسي قبل تعديل 2008 بأنه نظام رئاسي مغلق. وبعد هذا التعديل، أصبح نظاما رئاسيا مغلقا ومتشددا بامتياز، حيث الرئيس يملك صلاحيات واسعة ودون مسؤولية، وبرلمان ضعيف ومعطل بالثلث الرئاسي في الغرفة العليا. إذا، كان التعديل الدستوري القادم يريد الرجوع إلى النظام شبه الرئاسي. يجب التحديد الدقيق لصلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، خصوصا في مجال سلطة التعيين، وكذا ما يتعلق بالسياسة الداخلية التي يجب أن تكون من صلاحيات رئيس الوزراء الذي لديه مسؤولية وليست لديه صلاحيات في ظل النظام السابق، بينما يتولى رئيس الجمهورية السياسة الخارجية والدفاع، ويضمن استمرارية مؤسسات الدولة وضعية حكم بين السلطات، بالإضافة إلى تعزيز سلطة الرقابة البرلمانية وتوسيع سلطة الإخطار في ما يتعلق بالرقابة الدستورية لتشمل الكتل البرلمانية. النموذج الأمريكي.. رئيس قوي وبرلمان فعال يقوم النظام الرئاسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية على الفصل التام بين السلطات، رغم استحالة تطبيق ذلك من الناحية العملية. ورغم أن الرئيس يملك صلاحيات واسعة، إلا أن يده تبقى مغلولة في كثير من الأحيان بمصادقة الكونغرس الأمريكي، خصوصا في مجال تعيين المسؤولين الكبار في الدولة والسفراء، والمصادقة على الميزانية، وكذا المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بالإضافة إلى سلطة توجيه الاتهام الجنائي لرئيس الوزراء التي يتمتع بها مجلس النواب الأمريكي، وهو ما يعرف ب(لانبشمنت). بالإضافة إلى ذلك، يوجد قضاء مستقل، خصوصا المحكمة الدستورية الأمريكية التي لها باع طويل في الرقابة على دستورية القوانين، وكثيرا ما وقع الخلاف بينها والرؤساء الأمريكيين، أبرزها ما حدث أيام الرئيس أبراهام لنكولن (1861 19865)، حيث قضت بعدم دستورية حظر تجارة العبيد باعتباره تعدّيا على حق الملكية المكرّس دستوريا. ونفس الشيء تكرّر مع الرئيس توماس جيفرسون، وأعادت الكرّة مرة أخرى سنة 1934 مع الرئيس روزفلت. إذن، الرئيس في الولاياتالمتحدةالأمريكية رغم الصلاحيات الواسعة، إلا أنها ليست مطلقة، بوجود برلمان فعال وقضاء مستقل. إذا كان التعديل الدستوري القادم يريد الاستمرارية في النظام الرئاسي، يمكن العودة إلى دستور 10 سبتمبر 1963، حيث السلطة التنفيذية مجسدة في رئيس الجمهورية، المسؤول سياسيا أمام البرلمان ويجمع بين سلطة رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ويتولى تعيين الوزراء الثلثين (2/3) منهم من المجلس الوطني، وهم مسؤولون أمام الرئيس. أما البرلمان، فيراقب عمل الحكومة ويمارس الاختصاص الأصيل، وهو التشريع. أما في ما يتعلق بنائب رئيس الجمهورية، والذي يجب أن يتم انتخابه مع الرئيس مباشرة بالاقتراع العام، ويجب تعزيز استقلالية السلطة القضائية بما يضمن رقابتها على عمل الجهاز التنفيذي بصورة أوسع وحصر أعمال السيادة لتحقيق دولة القانون وضمان الحريات الأساسية. *ماجستير قانون عام كلية الحقوق جامعة المسيلة