في أحد الملتقيات التربوية عام 1994، في المقر الوطني، قدم الشيخ نحناح رحمه الله محاضرة تربوية فكرية، مما جاء فيها “إن الأرض لا تسمى أرضا إلا لخصوبتها وقوتها، والشمس لا تسمى شمسا إلا لدفئها وأنوارها، والإنسان لا يسمى إنسانا إلا لروحه وعقله وحركتنا التي جمعتنا ونحن فيها نُخاعها الشوكي وعمودها الفقري هي التربية. إن الساحة الوطنية والدولية يمكن الدخول إليها بلا إعلام أو تخطيط أو مال، ولكن لا يمكن الدخول إليها بلا تربية ذات مصداقية تعصم الفرد من الانحراف”. كل ما ذكره الشيخ يمكن تحقيقه بالجهد والعمل المتواصل، إلا التربية ذات المصداقية حيث لا تتحقق إلا بالسمو والتجرد الخالص من كل هوى وطمع وإعجاب بالنفس، وهي مهلكات فتاكة للحياة الجماعية. وكان الشيخ يدفع بالأفراد نحو المصداقية في العملية التكوينية، لأنها كفيلة بمواجهة التحديات والصعاب وحمل هموم الشعب وتجسيد المشروع الذي تبنى به النفوس التي ترفع راية الحق والعدل في الوطن. المصداقية هي تطابق الظاهر مع الباطن، وتناغم القول مع العمل، وليس العكس، لأن ذلك من أقبح الذنوب. المصداقية من الصدق، والصدق يهدي إلى البر والخير، والله يحب الصادقين.. المصداقية هي صدق مع الله تعالى بداية، في تصفية النية والإخلاص والتجرد له. دخل الشيخ رحمه الله تعالى الساحة السياسية والدعوية والاجتماعية بمصداقية تربوية، حيث حدد أهداف دعوته وحركته، ولم يخفها وأعلنها للجميع، ورفع راية في الساحة الجزائر، ودعا الجزائريين إلى دعوته ورؤيته الإصلاحية في كل المجالات، والتف الناس حوله لما يجسده من مصداقية في الفعل والقول. ومصداقيته تجسدت في صدق التعبير عن قناعته وفكرته، دون التواء أو تلون أو الظهور بمظهر المتناقض الذي لا يعرف ما يريد أو أين يتجه، أو يتستر بمقاصد غير صادق فيها. كان الشيخ قوي الحجة ذا براعة في الإقناع، يملك القدرة النفسية البلاغية والعلمية والسياسية في توجيه الرأي وصناعة القرار، لكن رغم ذلك كانت مصداقيته عندما يفسح المجال لمؤسساته الشورية لتقرر ويلتزم بقراراتها، كما حدث في قرار الترشيح عام 1999. مصداقيته ظهرت في تقدير أهل الفضل والسبق، فكان ينزلهم منزلتهم التي تليق بهم، حيث كان يزور أهل الجهاد من جيل الثورة وأهل العلم والأئمة والنخب الثقافية والفكرية وكبار الساسة أصحاب التجارب والسبق، ليأخذ من علمهم وخبرتهم وحسن نظاراتهم للأمور في الشأن العام. مصداقيته أن يظهر بمظهر الصغير أمام الكبير، والمتعلم أمام العالم، والودود أمام الحبيب، والمتسامح أمام الخصم. مصداقيته كانت في التصريحات، حيث لا يهوّن من الأخطار والتهديدات شيئا، ولا يهوّل ما لا قيمة له عند أهل العلم والناس جميعا، وتراه لا يغرق في الجزئيات والتفاصيل، وكان يردد دائما “إن الشيطان يسكن في التفاصيل”، ولا يضخم إنجازاته ومواقفه، ويترك التقدير للناس وأهل العلم، ولا يحقر عمل الآخرين، وكان شعاره “نقول للمحسن أحسنت وإن لم يكن منا، ونقول للمسيء أسأت وإن كان منا”. ومن أعظم ما رأيت في مصداقيته مواقفه التي كانت بحجم حركته وقدراتها، فلم يظهر بمظهر القوة مع ضعف الرجال والصف، لأن ظهوره بهذه الصفة هو توريط لحركته ومغامرة غير محسوبة العواقب، فكان يردد مقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله “الظروف تكيفنا ولا تتلفنا” و”إذا هبّت العواصف فيجب أن ننحني برؤوسنا”. وأبرز ما حفظته عنه في دروس فقه الدعوة بمسجد الرحمن في سنة 1983 في فقرة: فقه الدعاة: “لا يجب الظهور بمظهر القوة مع الضعف، ولا يجب حرق الأشواط في الدعوة إلى الله في التغيير الاجتماعي”.