عندما كتب عالم المستقبليات الأمريكي “ألفين توفلر” مؤلفه الشهير حول تحول السلطة إلى المعرفة، لم يستوعب كثيرون أن هناك تصاعدا واضحا ومتسارعا للدور الذي باتت تلعبه المعرفة كخلفية لعملية صنع القرار السياسي، وأنها باتت تسحب شيئا فشيئا مزيدا من السلطة لصالحها في مجالات الأعمال والاقتصاد والسياسة والشؤون الدولية، وكأن الحكمة تستعيد دورها من جديد، وكأني بفلاسفة اليونان يسترجعون مواقعهم السياسية بأثر رجعي، وإن كانت خريطتنا الإدراكية كالعادة أعجز من أن تستوعب المعطيات الأولية للانفجار المعرفي، وأضعف من أن تدرك ظهور نظام جديد لخلق الثروة قوض أعمدة نظام السلطة القديم، فنظام تفكيرنا التقليدي لم يتبين بعد بأن العلاقة بين صانع القرار والعلماء والخبراء في كافة التخصصات باتت حتمية، حيث المعرفة وحدها من يمثل الخلفية القوية للحوكمة المنشودة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتوظيف آخر ما توصل إليه خبراء الأكاديميات ومجالس العلوم وخزانات التفكير من نتائج، وقد وعت البرازيل التي باتت عقولها ترقص وتتفنن على إيقاع الأقدام والأجساد من حيث السرعة والمرونة، وعت ذلك جيدا باعتبارها تعيش حالة انبثاق اقتصادي واضحة، جعلت أكاديميتها للعلوم تسعى لاحتضان المنتدى العالمي للعلوم والمشاركة في تنظيمه إلى جانب منظمة اليونسكو والأكاديمية المجرية للعلوم والجمعية الأمريكية لتقدم العلوم والمجلس الأوروبي الأعلى للعلوم، والتي تعاونت جميعها بالشراكة لبحث موضوع “العلم في خدمة التنمية المستدامة” ويعد المنتدى الذي شددنا الرحال إليه السادس من نوعه ولكنه يعقد لأول مرة خارج أوروبا، ومن ثم تكون البرازيل قد انتزعت احتضان كأس العالم وإرهاصات العلم في الوقت ذاته. ويمكن تشبيه منتدى العلوم بدافوس علمي، يجمع بين رجال العلم وصنّاع القرار من جانب والشركات والمؤسسات من جانب آخر، بهدف وضع صناع القرار في الصورة بالنسبة لما يمكن أن تقدمه العلوم من أجل منح دفعات ديناميكية قوية لعملية التنمية المستدامة. فالصراع القادم من أجل السلطة والنفوذ يتحول بإطراد إلى صراع حول توزيع المعرفة والوصول إليها، وفي الاقتصاديات المتقدمة اليوم ينهمك غالبية العمال في صنع المعطيات والمعلومات وتبادل المعرفة غير الملموسة وغير الخطية والقابلة للنقل أكثر من أي منتج آخر. ومن ثم، فإن الاقتصاد المبني على المعرفة وكذا التعامل مع مجتمع المعرفة وكافة تعقيداته التي تزداد بتسارع كبير جعل عملية صنع القرار في أي مجال من المجالات لا تحتاج فقط إلى خبراء ولكن إلى ما بات يعرف بتكامل التخصصات أو باللغة العلمية أو البين-منهاجية التي سعى المنتدى إلى توظيفها في مجال التوازن البيئي والإيكولوجيا، بسبب المخاطر المحدقة بالتنوع البيولوجي، حيث أن اعتماد تلك المقاربات في الربط بين العلم والثقافة والتربية والاتصال، من شأنه أن يمنح دعما قويا للاتفاقيات الدولية حول حماية التنوع البيولوجي، من خلال وضع المعايير المناسبة لتحقيق التوازن البيئي وتوضيح العلاقة بين التنوع الثقافي والبيولوجي، كل ذلك يتم داخل دائرة “الحوكمة الفعالة” التي يستثمر فيه السياسي رأس المال الفكري إلى أبعد مدى. كما أن انبثاق مفهوم الدبلوماسية العلمية، جعل من هذا المفهوم الجديد أحد محاور المنتدى، الذي أبرز أهمية اعتماد مقاربة جديدة للانتقال بالتقليد القائم على التعاون في مجالات البحث العلمي إلى السعي لبناء نوع من الشراكة العلمية بين الدول واعتماد سياسة للبحث العلمي تضع الدولة في قلب الرهانات العلمية القائمة في العالم، فرهان الحيازة على المعلومات المعرفية يقوم على التجسس الصناعي تارة وعلى الشراكة في مجال البحوث تارة أخرى. ونظرا للدور الذي تلعبه البرلمانات في صنع السياسات العامة، فقد اعتمد منتدى العلوم جلسة علمية، بحث خلالها الدور الذي يمكن أن تلعبه البرلمانات في اعتماد سياسات عامة في مجال التجديد والتكنولوجيا والتربية تكون مخرجاتها لصالح التنمية المستدامة. كما بحث المنتدى آليات الربط بين الجامعات ومراكز البحوث من ناحية والمؤسسات الاقتصادية والشركات من ناحية ثانية، مع التركيز على مناهج التدريس في كليات الهندسة وضرورة تكييفها مع متطلبات واحتياجات المشاريع ذات العلاقة بالتنمية المستدامة. إنه عالم من التعقيد يحتاج إلى تعاون ضروري وحتمي ومؤسسي بين صانع القرار والخبير العالم، فالحوكمة لا يمكن أن تكون فعالة إلا بتحالف قوي ودائم بين المؤسسات السياسية والعلمية، وعملية صنع القرار لم تعد خطية كما في عهد الصناعات الثقيلة والحروب الباردة والمفهوم التقليدي لعلم السياسة، وإن كان ديفيد أستون قد عرف السياسة منذ نصف قرن كونها دراسة تقسيم الموارد في المجتمع من خلال السلطة أو اعتبرها هارولد لاسويل بأنها معرفة من يحصل على ماذا متى وكيف؟ فإن السياسة اليوم تدور في فراغ إذا لم تركز على كيفية الحصول على المعرفة وتحويلها إلى قيمة مضافة. حتى الرياضة باعتبارها عملا تجاريا دخلت عالم المعرفة والتعقيد فشركات البرمجيات مرتبطة بقوة بالأحداث الرياضية، وأقسام الهندسة تدرس وتطور باستمرار الأدوات الرياضية ومخابر البيولوجيا تبحث باستمرار عن معادلات جديدة لاختبار المنشطات وكذا التنافس بين الفضائيات الرياضية والصناعة الإعلامية الرياضية..الخ.. وفي السياق كل شيء بات في حاجة إلى المعرفة ومزيد من الاستثمار في المعرفة.