أعترف لكم أنني لست في المستوى الذي يسمح لي بالحديث عن الفقيد الدكتور أبو القاسم سعد الله لا سياسيا ولا ثقافيا ولا شيئا آخر، فالرجل نموذج المثقف العالم باختصاصه والملتزم بقضايا وطنه وأمته. أذكر للفقيد ما يأتي: أولا: أذكر له أنني كنت أنام في غرفتي بالحي الجامعي وعلى صدري أول كتاب له حول الحركة الوطنية الجزائرية الذي أصدره في نهاية الستينيات، كان تاريخا آخر يختلف عن التاريخ الذي ألفناه في كتب التاريخ، ككتاب “الجزائر في مرآة التاريخ” للشيخ مبارك الميلي. مع سعد الله كنا نحس أن تاريخ الجزائر الحديث يولد مع ميلاد الجزائر الحديثة. ثانيا: في سنة 1972 كلفني الراحل النقيب حمودة عاشوري، مدير مجلة الجيش، والمقدم الهاشمي هجرس، مدير المحافظة السياسية للجيش آنذاك، بتنظيم ندوة تجمع المؤرخين والمثقفين لمناقشة قضية كتابة تاريخ الثورة، وكان الفرنسيون قد بدأوا يكتبون بعض مذكراتهم، كان الراحل بومدين له حساسية خاصة من موضوع كتابة التاريخ وإثارة هذه المسألة بحجة أن جراح الجزائر لاتزال تنزف. أذكر أنني نظمت الندوة وكان أبرزها هو الدكتور سعد الله، وأذكر أنني عندما اتصلت به قال لي: هل أخذتم الضوء الأخضر من الرئيس بومدين؟ فقلت له: لا أعرف. ولكن قيادة المجلة هي التي اقترحت الموضوع وكلفتني بإنجازه، وكنت وقتها أجتاز واجب الخدمة الوطنية. ولعلها أول مرة يطرح فيها موضوع كتابة تاريخ الثورة في الصحافة الوطنية، وكان السؤال المطروح: من يكتب تاريخ الثورة وكيف يكتب؟ وشارك في الندوة الدكتور أبو القاسم سعد الله وموسى لقبال ومولاي بلحميص ومحمد الشريف مساعدية وعبد القادر حجار، وكانت مساهمة الدكتور سعد الله المقاربة العلمية الوحيدة التي حددت الأسس العلمية لكتابة التاريخ، وقد نشرت مجلة الجيش الندوة في عدد واحد وأثار ضجة على مستويات عليا في الدولة، وقيل إنه نبش في محظور. ثالثا: أتذكر أيضا أن الدكتور سعد الله كتب مقالا سنة 1976 عند مناقشة الميثاق الوطني وأثار جدلا واسعا، لأنه طالب الرئاسة بأن تكشف عن أسماء الذين كلفوا بكتابة الميثاق الوطني، وكان مقاله شجاعة المثقف الذي يعرف ما يقول في الوقت المناسب. رابعا: سعد الله هو المثقف والمؤرخ والكاتب وأستاذ الجامعة الذي كان نموذجا للعفة الثقافية العلمية، فلم يلوث أبدا اسمه أو قلمه بالسياسة أو النيابة أو الوزارة أو حتى الإدارة. عاش للعلم والثقافة ومات وهو في حالة الناسك المتعبد في محرابهما. خامسا: كان سعد الله زاهدا في إبداء الرأي في الحياة السياسية والثقافية في البلاد، لكن عندما يكتب يثير زوابع بما يقدمه من إضافات بحكمة المثقف الملتزم بقضايا أمته بلا مقابل. إنجازه العلمي الرائع “تاريخ الجزائر الثقافي” صورة لجدية الرجل وتمكنه من علم التاريخ.. تغمد الله الفقيد برحمته الواسعة وألهم الجزائر جميل الصبر والسلوان. [email protected]