مرت، أمس، الذكرى ال35 لوفاة أو "اغتيال" الزعيم هواري بومدين، رجل من الماضي، يعود في كل مرة، ليس لمجرد ذكرى موت، ولكن بمجرد "عطسة" زاكمة من باريس أو من الرباط، كثيرا ما كانت كافية، شعبيا، لاستحضار مسيرة رجل بهندام وعيون لم يتكررا إلى الآن. سقطنا في فخ شعبوية، لما صرنا نذكر “رجلة” بومدين، كلما أصابنا الزكام من فرنسا، بعد 35 سنة من وفاته، من قبيل أن نطرح سؤال: هل كان للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الجرأة على إهانة الجزائريين، كما فعل قبل أيام لو أن بومدين مازال حيا؟ السؤال “فيسبوكي” وعاطفي بالدرجة الأولى، لكنه ينم عن شيء ما يعكر مزاج الجزائريين، السنوات الأخيرة، كلما طرحوا سؤالا آخر، أين نحن من عهد بومدين؟ والواقع أن السؤال في حد ذاته، بمثابة “عقاب” معنوي لسلطة حاكمة، عجزت عن مجاراة “رجلة” بوخروبة، على الأقل في عيون قطاع واسع من شعب يذكر عن رئيسه “الثاني” أنه لم يترك في حسابه البنكي سوى بعض الدنانير، ولكنه ترك بلدا على سكة تنمية كان أفضل من إسبانيا، نسفتها الرياح بمجرد ما نسفه الموت. هناك من يرى أن استحضار بومدين (1932- 1978) كطيف يمر بالمخيلات، في كل “خيبة” جديدة تسجلها السلطة، ليس أكثر من نزوة غضب ظرفية أو “خطاب شعبوي” لا يدرك أصحابه أن لكل زمان رجاله، وقد يكون القائل بذلك محقا، ولو كان لبومدين ولد لكان علمه لزمان غير زمانه، لكن، محق كذلك، من يقول إنه لو كان بومدين على قيد الحياة، لما تجرأ الجيش الفرنسي على النزول شمال مالي، ولما تجرأ حميد النعناع على إنزال العلم الجزائري من فوق القنصلية الجزائرية وتمزيقه في الدار البيضاء، لسبب واحد فقط، هو أن صاحب شعار “بناء دولة لا تزول بزوال الرجال”، أقسم أن لا تطأ أقدام جندي غربي في الصحراء الإفريقية مادام حيا، في خطاب من خطاباته أمام طلبة جامعة باب الزوار، حذر فيه من “تكالب” الأمريكيين والفرنسيين على منطقة الساحل، لما كان يتحدث عن النزاع مع المغرب.. تحذير سبق خطابات مكافحة الإرهاب الحالية وتحذيرات من مؤامرات الخارج، في جزائر الألفية الثالثة، وقد تنبأ بومدين لذلك، تماما كما تنبأ لسقوط نظام صدام حسين في العراق وانفصال الأكراد، في ضوء الحادثة الشهيرة مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، حينما زار بومدين بلاده سنة 1974 والتقى به، ومعه وزير الخارجية هنري كيسنجر، وأسمعهما كلاما لم يستسيغاه عن رفضه المطلق “تأسيس إسرائيل ثانية”، لما تناهى إلى أسماعه أن واشنطن دعمت التمرد الكردي في شمال العراق. فطلب الرئيس الأمريكي من بومدين إيصال رسالة إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر تفيد بأن بلاده بريئة من التهمة المنسوبة إليها. مع الزمن، رأى الجزائريون أن بومدين لم يكن أقل شأنا من الشهيدين بن بولعيد وعميروش، على بطولاتهما الفذة، وكلا الرجلين تنبأ بمصير الجزائر، على اختلاف نبوءتهما، فالأول أوصى رفاقه بمقولة شهيرة “سنعاني الكثير من أعوان الاستعمار، المندسين في كواليس الإدارة بعد الاستقلال، ومن وجد غنيا يكون لا محالة من أعداء الثورة”، أما الثاني، فخلال وجوده في تونس أوائل الثورة، قرر الدخول إلى الجزائر، فمنح هناك ساعة يد ثمينة للعلامة حسن المقراني الذي مازال حيا، وقال له عليك أن تعد كم من دقيقة بقيت للاستعمار في الجزائر. حكم بومدين الجزائر، 13 سنة (19 جوان 1965 إلى 27 ديسمبر 1978) أي أقل بقليل من فترة حكم الرئيس بوتفليقة، وبوتفليقة هو أكثر رؤساء الجزائر مكوثا في الحكم، إلى الآن، وقبل عقود قال بومدين عن بوتفليقة إنه “عنصر ثوري ملتزم ويعرف كيف يكمل المهمة”، وبعد عقود جلس بوتفليقة في الكرسي الذي كان يجلس فوقه الراحل بوخروبة، بتزكية شعبية مخيلاتها كانت مليئة بالحنين إلى الفترة البومديينية، تماما كما استفاد بوتفليقة نفسه من “الشرعية البومديينية”.. شرعية رفعته سماء، لدى جزائريين كان يكفي بالنسبة لهم أن يحكمهم رئيس كان يكاتف بومدين، لكن ولأن لكل زمان رجاله، وبعد 14 سنة من حكم بوتفليقة، مازال قطاع واسع من الشعب، يبحث عن رئيس بهندام وعيون بومدين.. جزائريون يفتشون في أرشيف صور وفيديوهات محمد إبراهيم بوخروبة، الذي انتقلت عدواه إلى جيل جديد لم يره حيا، لكنه ارتبط به كأب يحلم بعودته قريبا، ويتوق إلى معرفة حقيقة الموت، أهو الغدر أم القدر؟