لم يعد المد التركي مقصورا على الدراما والمسلسلات التي أبهرت متابعيها وروّجت للسياحة في بلادها وللذوق التركي أيضا، لتصبح الألبسة القادمة من عاصمة الدولة العثمانية منافسا قويا لنظيرتها الصينية المعروفة بضعف الجودة، وحتى تصل هذه السلع إلى أسواقنا على أصحابها خوض رحلة الشتاء والصيف. صحيح أن الألبسة التركية ليست جديدة على الجزائريين، فقد عرفناها مطلع سنوات التسعينات مع رواج تجارة “الكابة” لكن ليس بنفس الدرجة التي هي عليه الآن، مع فتح وكلاء عبور في الجزائر، إذ نمت وتزايدت تجارتها وطريقة جلبها من خلال حاويات، لتنافس بذلك الألبسة الصينية القادمة من أقصى الشرق، والتي لا يختلف اثنان على أن الذي يصل منها إلى أسواقنا هو الأقل جودة في السوق العالمية وهو ما يعكس السعر الذي يكون غالبا في متناول الجميع. ولعل ما يميز الألبسة التركية أنها تحاكي الجودة الأوروبية التي نجدها في محلات سيدي يحي وديدوش مراد والأبيار وبن عكنون وغيرها من المحلات الراقية في العاصمة، ومختلف المدن الجزائرية، لكن بتكاليف معقولة، فلا يمكن التمييز بين “الجينز” التركي مثلا ونظيره المصنّع في أوروبا. ولعل التحفيزات التي يجدها التجار الجزائريون لبلوغ بلد أردوغان لاختيار سلعهم من بين الأسباب التي دفعتهم لتغيير الوجهة، فالحصول على التأشيرة يتم بسهولة، إضافة إلى قرب المسافة بين الجزائروتركيا بخلاف الصين، كما أن الإقامة في الفنادق غير مكلفة ولا تتجاوز في الكثير من الفنادق عتبة 30 دولارا أي نحو 3000 دينار جزائري لليوم، كما أن الخيارات لاقتناء الألبسة بالجملة غير محدودة، من أغلى سعر إلى الأرخص، حسب الجودة. من بايزيد تبدأ العملية ولرصد مسار السلع التركية قبل أن تصل إلى الزبون الجزائري، اقتربنا من بعض التجار الذين ينشطون في هذا المجال منذ سنوات، فكانت وجهتنا المركز التجاري “حمزة” في حي باش جراح بالجزائر العاصمة، أين كان في انتظارنا محمد، الذي يدير محلا لبيع الألبسة النسوية. محمد كان تاجر “كابة” يتنقل بين سورياوتركيا قبل خمس سنوات، غير أنه تخلى عن الوجهة السورية مع بداية الأزمة ليبقي فقط على الوجهة التركية، قبل أن يتخلى أيضا على “الكابة” عندما عقد شراكة مع عدة تجار لاقتناء حاويات من تركيا، يتقاسمون فوائدها. وعن تجربته يقول محمد: “لا يمكن إنكار أن تجارة الألبسة التركية مربحة بعكس الألبسة الصينية التي بدأ الزبائن يعزفون عنها بسبب قلة جودتها، وحتى محدودي الدخل باتوا يتجنّبونها بحجة أنها مسببة للأمراض مثل الحساسية”. أما عن انتقاله الى عالم الاستيراد، فذكر محمد أن الكثير من أصدقائه الذين كانوا ينشطون في تجارة “الكابة” استقلوا بمحلاتهم الخاصة وأصبحوا يستوردون حاويات بالشراكة مع آخرين بعد أن توسع الطلب على هذه المنتوجات ولم تعد “الكابة” تفي بالغرض، “إلا في نطاق محدود ولسلع الدرجة الأولى “ يقول محمد، مشيرا إلى الصعوبات التي تواجه هؤلاء في المطار وتبعات “حجز” السلع من قبل الجمارك، لهذا يبقى اقتناء السلعة بطريقة قانونية عبر الحاويات آمن. وتبدأ رحلة محمد في اسطنبول من أحياء بايزيد، اكسراي، عثمان بك، وهي المناطق التي تعرف حركة كبيرة للتجار القادمين من كل الدول العربية، هناك الخيار مفتوح على مصراعيه لاختيار الألبسة الرجالية والنسائية وملابس الأطفال بالجملة. ولأنه مختص في الألبسة النسوية، يأتي الحجاب التركي في مقدمة السلع التي يقتنيها من تركيا، وفي السياق يواصل “أتعامل أنا وزميلي مع تجار أتراك يوفّرون لنا السلعة تحت الطلب ووفق الذوق الجزائري الذي يختلف عن التركي، وهو ما لمسناه من خلال طلب الزبونات لأنواع بعينها”. ويقوم محمد بهذه العملية مرتين في السنة، في فصل الربيع تحسبا لفصل الصيف، وفي الخريف لحجز ألبسة الشتاء، ويمكن أن تكون هناك استثناءات أيضا. وفي نفس المركز التجاري، التقينا بتاجر آخر الوجهة التركية هي خياره لتأمين سلعة محله المختص في الألبسة الرجالية بأنواعها، وبخلاف من سبقه لا يتنقل هذا الأخير كثيرا إلى تركيا، إذ يتعامل مع شريك تركي يؤمّن له السلعة ويتقاسمان الأرباح، ويقوم باختيار السلعة عبر “الكتالوجات” التي يرسلها الشريك التركي. سلعة تحجز تحت الطلب وعن تجربته يقول التاجر الذي فضل أن نسميه الياس، “أنشط منذ سنة 2000 في بيع الألبسة التركية، وأقمت لفترة طويلة في اسطنبول وهو ما مكنني من إجادة اللغة التركية، كما تعرفت على كل خبايا تجارة الألبسة في تركيا والتفريق بين السلع الجيدة والأقل جودة، وهو ما أهّلني لأن ألعب دور الوسيط بين التجار الجزائريين ونظرائهم الأتراك، خاصة التجار الجدد في هذا المجال”. وبعد سنوات من النشاط، يقول الياس، فضّلت العودة الى الجزائر بعد أن توسّعت تجارتي لأعقد شراكة مع تاجر تركي يوفّر لي السلعة التي تجهّز تحت الطلب من أحد المصانع الصغيرة المنتشرة في تركيا، ليقوم بدوره ببيعها بالجملة في الجزائر لباقي المحلات، ويعرض منها عينات في محله في السوق التجاري حمزة بباش جراح، وبالطبع لأن السلعة ليست نسخة عن باقي السلع المتوفرة في باقي المحلات، فثمنها يكون أغلى. ومثل الياس يعمد الكثير من التجار إلى اقتناء الألبسة من تجار الجملة دون الاضطرار للسفر وتحمّل تكاليف الشحن ووكلاء العبور والجمركة.