مرّت سنتان بالكامل على احتجاج فريد من نوعه قام به شاب من مدينة الجلفة بطريقة متميزة خالفت كل طرق الاحتجاج المعهودة، من خلال فتح معرض للصور والمخطوطات، استنكارا لطمس معلم تاريخي وروحي لسكان ولاية الجلفة وما جاورها، متمثلا في مسجد وزاوية الشيخ "سي علي بن دنيدينة" الذي يمثل إرثا عريقا للمناطق السهبية ككل. الاحتجاج أثمر إنتاجا فكريا وأدخل قضيته العالمية. على الرغم من أن الاحتجاج المتميز، الذي تناولته ”الخبر” في عددها الصادر يوم الاثنين 12 فيفري 2012 تحت عنوان ”احتجاج فريد من نوعه- معرض من أجل فتح إعادة مسجد في الجلفة”، لم تثمر نتيجته على صعيد الإدارات الرسمية التي تعوّدت عندنا في الجزائر على احتجاجات حرق العجلات وغلق الطرقات وقطعها بالمتاريس أو الإضرابات، رغم أن هذه الإدارات الرسمية، على مستوى ولاية الجلفة أو حتى على مستوى رئاسة الوزراء ووزارة العدل ووصولا إلى رئاسة الجمهورية، استقبلت رسائل عديدة من قِبل الشاب المحتج تشرح فيها الطمس المقنّن لثاني أقدم مسجد بالجلفة، وإلى جواره زاوية عريقة، وما يقدّمه من مناشدات واقتراحات، إلا أنه لم ييأس. وبقي فاتحا معرضه، بحي المحطة بمدينة حاسي بحبح، يستقبل الزوار ويقدّم لهم ما جمعه من معلومات ومعارف عن الزاوية وشيخها والمسجد وبنائه، وهدفه الحفاظ على جانب من تاريخ الولاية ككل، لأنه يعرف مدى مكانة هذا الشيخ ومسجده وزاويته في نفوس مواطني ولاية الجلفة وما جاورها، وحتى بمنطقة القبائل، لأن الشيخ سي علي بن دنيدينة ابن زوايا منطقة القبائل، وتابع طريقتها الرحمانية، مثلما تناولت ”الخبر” قضية المسجد والزاوية في عدديها الصادرين بتاريخ: 27 أوت 2011، و20 جوان 2013، ولعل طريقة الاحتجاجات كانت لها نتائجها على الصعيد الاجتماعي غير الرسمي الذي احتوى القضية وتعاطف معها، ولم تضع المعلومات والمعارف التاريخية، بل زادت بمشاركة كل من لديه معلومة يزوّد بها المعرض. أكثر من هذا، فإن الشاب المحتج، خذير سالم، وهو أحد أحفاد الشيخ سي علي بن دنيدينة دخل العالمية من بابها الواسع، من خلال نشر كل ما لديه على صفحات الفايسبوك لتتفجّر قريحته بتأليف كتاب ”من وحي الألم” باللغة الفرنسية، والذي تمّت طباعته، وأنشأ قصائد تأبينية في حق الرئيس الفنزويلي الراحل ”هيغو شافيز” وكذا رئيس ماليزيا، وهو على وشك التنقل إلى فنزويلاوماليزيا لتقديم إبداعاته، مثلما يواصل اليوم تأليف كتابات أخرى حول تاريخ المنطقة والصراعات المذهبية الدينية، وما جنته على أمّتنا. كل هذا جاء بعد سنتين من قيامه باحتجاج حضاري متميز، عادت إليه ”الخبر” في زيارة خاصة لمعرفة القديم المتعلق بالزاوية ومؤسسها، والجديد المتعلق بالشاب المحتج وثمار الاحتجاج. رحلة الشيخ سي علي بن دنيدينة في بناء المسجد وتأسيس الزاوية أما عن الزاوية ومؤسسها الشيخ سي علي بن دنيدينة، فيقول الحفيد المحتج إن جده من ناحية الأم من مواليد سنة 1870، قرأ على يد والده الشيخ سي محمد، خريج زوايا بلاد القبائل التي ارتحل إليها آخذا الطريقة الرحمانية على منوال والده سي أحمد، وهو جد الشيخ سي علي بن دنيدينة، الذي يعتبر أول من أخذ الطريقة عن الشيخ سي محمد بن عبد الرحمن الأزهري المعروف بمنطقة القبائل سنة 1765، وتم إرسال سي علي بن دنيدينة مع أخيه البشير إلى منطقة القبائل لمواصلة دراسة الفقه وعلوم اللغة والدين، كما كانت له زيارات إلى زاوية الهامل، مستفيدا منها بعض العلوم والتقى بها مع الشيخ ”سي محمد بن بلقاسم”. وفي سنة 1910 ارتحل الشيخ سي علي إلى البقاع المقدّسة حاجا ليعود بعدها مشتغلا بالذكر والعبادة، وأظهر من الورع والأخلاق، ما جعله محبوبا عند الناس إلى درجة تحكيمه في قضايا هامة، وهو ما أثار حقد السلطات عليه. وقد ظهرت له فكرة بناء مسجد وتأسيس زاوية، ولعله لقي التشجيع من شيخ آخر كان له صديقا، وهو الشيخ سي عبد الرحمن النعاس الذي كان له مقام بالجلفة، وبه مصلى، لأنهما يتفقان على أن المسجد الذي قامت السلطات الاستعمارية ببنائه خلال سنة 1880 بحي البرج حاليا بالجلفة قد دنّسه الحاكم الفرنسي بدخوله لحظة تدشينه، ويضاف إلى ذلك أن الشيخ كان معاديا لكل أشكال الاحتلال، رافضا له، حتى إنه كان يستقبل عبد الرحمن بن الطاهر أحد أصدقاء الشهيد الليبي ”عمر المختار”، كل هذا شجعه على بناء مسجده وزاويته على قطعة الأرض التي يمتلكها سنة 1916، وهي مقابلة لمركز الإدارة الفرنسية المعروفة باسم ”دار البارود” عند سكان ولاية الجلفة، وفي اختياره لهذا المكان تحد لسلطات الاحتلال الفرنسي. واعتبر مسجد سي علي بن دنيدينة أول مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، وكان للشيخ زوجتان، ولعل ما قدّمته الزاوية لم يقتصر على التعليم الديني فقط، بل ذهب إلى الجانب الإنساني والصحي، خاصة أثناء عام المجاعة سنة 1919، حيث كان الشيخ يستقبل مرضى ”التيفيس” ويقوم بعلاج العشرات، مثلما أنشأ المقبرة التي كان يُدفن بها المسلمون، والتي مازال سكان الجلفة الأصليون يسمّونها باسمه. وفي خضم استقباله للمرضى والجوعى وعلاجه لهم، أصيب الشيخ بالعدوى فتوفي سنة 1920، كما تقول أغلب الروايات، تاركا المسجد والزاوية في عهدة أخيه، ثم خلفه بعض الأئمة، غير أن الزاوية ضاع دورها، مثلما ضاعت منها العديد من الوثائق والمخطوطات. وحتى تقسيم التركة من الأراضي ضيّع الهيكل، ولم تبق فيه إلا العجوز ”خيرة” ابنة أخيه، طاعنة في السن تغالب المرض والكبر، وسط بيت ضيق وقديم على وشك الانهيار. ورغم أن السلطات حاولت ترميم المسجد وتوسعته خلال سنة 1974، إلا أنها قامت بتهديمه كلية خلال سنة 2011 بحجة إعادة تجديده، وهو الأمر الذي أثار استياء سكان الولاية، لأنه معلم تاريخي وإرث روحي، من المفروض أن يكون ترميمه وفق قواعد مقاييس المعالم التاريخية، بل اعتبروه ”طمسا” لجزء من تاريخ المنطقة ككل، وهذا الذي دفع الشاب خذير سالم إلى أن يقوم بالاحتجاج ورفع الرسائل قبل تهديمه، مقترحا على السلطات الكثير من الحلول، لكن نداءاته لم تجد جوابا، وواصلت السلطات مشروعها مثلما واصل هو احتجاجه وتمسك به. من وقفة احتجاجية إلى إبداعات فكرية وتواصل عالمي الشاب خذير سالم الذي يقف اليوم على عتبة الأربعينات من العمر، حاملا لمستوى الأولى جامعي في العلوم الاجتماعية وصاحب ثقافة واسعة باللغتين العربية والفرنسية، لم يشأ أن يكوّن لنفسه أسرة لأنه اختار أن يحمل هموم زاوية طمست ومسجد هدّم، وجمع كل ما لديه من وثائق ومخطوطات وصور ليفتح معرضا خاصا بهذا الإرث العريق، داعيا الجميع إلى زيارته لتعريفهم بما كان وما يجب أن يكون، وفي ظل تلك الزيارات والاحتكاك بمئات المرتادين لمعرضه كان الإبداع، وكان الكتاب الأول الذي تم طبعه ”وحي الألم” باللغة الفرنسية، فيه من الخاطرة الأدبية والرؤية النقدية لجوانب نفسية فيه تعبير عمّا عاشه ويعيشه في الواقع مع نظرة حول المحيط. أما الكتاب الثاني الذي أبدعه فقد اختار له عنوان ”في ظل غياب العقل”، وهو كتاب باللغة العربية مازال تحت الطبع، يتضمّن أفكارا جريئة تعالج واقع الأمة العربية منذ العهد الإسلامي الأول، وكيف جنت عليها المذاهب الرافضة للعقل، معتبرا أن الزوايا أدت دورا في الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري وهي المرجعية الحقيقية للشعب الجزائري، ضاربا أمثلة من خلال الأمير عبد القادر والشيخ بوعمامة ومصالي الحاج وكل أفراد الحركة الوطنية، واعتبر أن حربا خفية تقوم بها بعض الأطراف الرافعة لشعار مذاهب غريبة عن الجزائر ضد الزوايا، حتى إن مئات الزوايا على المستوى الوطني طمست معالمها بحجج واهية، معتبرا أن المذهب المالكي في الجزائر كان رائدا والمفروض أن نبقى محافظين عليه. ويناقش في الكتاب آراء سياسية حول الصراع الأمريكي العربي وسقوط العراق كبداية لسقوط جميع الدول العربية بدعم ومساعدة عربية، مبيّنا أسباب انهيار العالم الإسلامي، كل هذا في ظل غياب العقل. أما الكتاب الثالث فهو خاص بتاريخ المنطقة، بما فيها تاريخ زاوية الشيخ سي علي بن دنيدينة، وما فاجأنا به أن خذير سالم بعث برسالة إلى السفارة الفنزويلية بالجزائر يؤبّن فيها الرئيس الفنزويلي هيغو شافيز، واستقبل مكالمة شكر من السفارة، وهو يعدّ للسفر ناحية العاصمة الفنزويلية لحمل معرضه الخاص بالزاوية والمسجد، ومنها قد يزور ماليزيا المعجب برئيسها وسياستها في التسيير، وقد تكون له وجهات عالمية أخرى، معتبرا ”شافيز” بالقدوة في رفض الظلم والتعبير بصراحة وشجاعة، بل دافع عن القضايا العربية أفضل من العرب في حدّ ذاتهم، ولعل هذه النتائج والإنتاجات والإبداعات الأدبية والفكرية التي كانت ثمرة احتجاجه الفريد أدخلت مسجد سي علي بن دنيدينة وزاويته العالمية من بابها الواسع، وبالتالي لم تنجح الأطراف التي خططت أو ساعدت على طمس معالمها، وبرهنت لكل السلطات، على اختلاف مواقعها، أن تأثيرات الاحتجاج بالطرق الحضارية، صور ومخطوطات، أكبر وأعظم من احتجاج قطع الطرقات وحرق العجلات.