نسمع من حين لآخر أصواتا ترتفع من هنا وهناك، تعتب على المثقفين صمتهم وغيابهم أو قلة حضورهم باختصار، فيما تختلج به الجزائر من أحداث وحوادث مأساوية، سواء ما يدميه العنف منها أو ما يغلف بالشعارات السياسوية التي لم تعد تنطلي على أحد. وإذا نحن افترضنا نزاهة هذه الأصوات، فالجواب واضح في الحقيقة وهو جواب مزدوج: أولا: أن مثقفينا ما انفكوا يعبرون عن آرائهم– بجرأة نادرة– كما تشهد بذلك صفحات أو شاشات العديد من المنابر الإعلامية. وليس الذنب ذنب المثقف إذا كانت سلطات البلاد– المعتزة بجهلها وجبروتها– لا تولي صوته أدنى اعتبار. ثانيا: أن المثقف يتعامل في الغالب مع الواقع والمعقول والممكن، والحال أن البلاد غارقة في اللامعقول منذ نحو أربعة عقود. وهي اليوم بالذات– تحت رحمة حمى الرئاسيات الضاربة– تسبح في محيط من اللهو والعبث.. إن حال الجزائريين مع حكامهم أشبه ما تكون بحكاية أشعب والجارية: حكاية الدينار الذي يحمل ويولد ثم يموت عند الوضع. لقد صدقت الجارية الولادة، لكنها استغربت الوفاة. إن الشعب الجزائري يعيش نفس الحالة أو ما يشبهها منذ أربعة عقود على الأقل؛ إنه في خضم اللامعقول متوهما أنه في صالحه. وليس الأمر كذلك للأسف. ترى متى يفطن الشعب فيستغرب حاله كما فعلت الجارية؟ إذا انطلقنا فقط من بداية 1979، فإن السؤال الذي يمكن أن يطرحه أي مثقف هو: هل من المعقول أن يخلف الرئيس الشاذلي بن جديد الراحل هواري بومدين؟ لقد جيئ بالرئيس الشاذلي، وجيئ معه ببرنامج محاربة الندرة فسعدنا لذلك، بعد أن أصبحت أسواقنا زاخرة بمختلف أصناف الفواكه والأجبان المستورة ؛ كما سعدنا بعد إلغاء رخصة الخروج بمنحة السفر المضاعفة، بدينار يساوي فرنكا ونصفا أو أكثر. لقد فتح هذا البرنامج– اللامعقول- باب الاستهلاك على مصراعيه، اعتمادا على ثروة المحروقات الزائلة التي كان الرئيس الراحل يحاول تثمينها لإرساء استقلال الجزائر على أسس موضوعية، باستثمارها في تكوين الإنسان الحر والاقتصاد المنتج المصنع. وكان طلب الرئيس الشاذلي عام 1988 عهدة ثالثة مدخلا لعبث أخطر: حوادث أكتوبر من نفس السنة التي أريد لها أن تضرب استقرار البلاد- لأمد طويل– وتفتح عهدا جديدا يسيطر عليه ”الديوان الأسود”. أي أن الجزائريين لم يعد من حقهم معرفة من يحكمهم، بعد أن أصبح التضليل سيد الموقف. ومن البديهي أن العبث لا يمكن أن يولد غير العبث: عبث تعددية بلا حدود، وبلا توقف. تمخضت عن ”أحزاب” بلا برامج، وبلا شخصيات. غداة هذه الأحداث الأليمة طرحت فكرة التمهيد للتعددية السياسية، بفتح منابر داخل جبهة التحرير الوطني– الجهاز شبه السياسي لنظام الحكم. وكان ردنا على هذا الطرح يومئذ، أن أقصر طريق إلى التعددية السليمة يتمثل في أحد أمرين: - إقرار التعددية الموضوعية باعتماد الأحزاب التي كانت تنشط في شبه سرية، وهي حسب تاريخ تأسيسها: جبهة القوى الاشتراكية، حزب الطليعة الاشتراكية، الحركة الديمقراطية الجزائرية – العودة إلى التعددية التاريخية التي كانت قائمة عشية إعلان ثورة فاتح نوفمبر 1954. أي فسح المجال لإعادة تشكيل التيار الوطني العمالي (حزب الشعب الجزائري) والتيار الوطني اللبيرالي (حزب البيان)، فضلا عن الحزب الشيوعي الجزائري. وقد حاولنا في هذا السياق بعث الحركة الوطنية العمالية، انطلاقا من قناعة أن هذا التيار بحاجة إلى التعبير عن وجوده بصفة منظمة مستقلة. وإيمانا بالديمقراطية الحق، وإسهاما في ترشيد العمل السياسي الجدي والموضوعي، طرحنا فكرة تحديد الولاية الرئاسية بعهدتين لا ثالثة بعدهما. طرحنا ذلك في 27-5-1991؛ أي في خضم ”العصيان المدني” لجبهة الإنقاذ الإسلامية، قبل سقوط حكومة حمروش بأيام معدودة. كتبنا يومها دفاعا عن هذا الطرح: ”أن تحديد العهدة أمر ملازم للديمقراطية، ومدخل ضروري للتداول على الحكم بين الأحزاب وزعمائها؛ ولا تكتمل الشرعية الدستورية بدون هذا التحديد.” وتتمة لذلك أضفنا: ”إذا كان الأمريكيون يقدرون أن 8 سنوات جد كافية، فمن حقنا نحن أن نقول (10 سنين.. بركات)”. وما دمنا بصدد الحديث عن المثقف وموقفه مما يجري في بلادنا، من المهم أن نذكر في هذا السياق بما كتب الدكتور أبو القاسم سعد اللّه في يومياته (16/4/1999)، غداة انتخاب الرئيس بوتفليقة لعهدة أولى: ”الرئيس المنتحب.. انتهى دوره بوفاة بومدين. وقد عمل ما عمل في ذلك العهد، وهو محسوب عليه بما فيه حسنات وسيئات. فلماذا تنفخ فيه الروح من جديد؟”. أما نحن فقد أمهلنا ”الرئيس المنفوخ فيه” عامين، لنكتب غداة الذكرى الثانية لانتخابه تحت عنوان ”نحو عهدة.. بيضاء”، لأننا كنا لم نتبين بعد الخيط الأبيض من الأسود في خطته الإنمائية. وأعدنا الكرة قبيل الذكرى العاشرة بعنوان ”نحو عشرية.. بيضاء”، ختمناه بالفقرة التالية: ”لقد أصبح الشباب– بحرقته وانتحاره– أقسى حكم بالفشل على استراتجية بوتفليقة الإنمائية– إن وجدت طبعا”. وكنا في أواخر ديسمبر 2006 قد عارضنا رواد الدعوة إلى عهدة ثالثة– من أمثال بالخادم وولد عباس وبونجمة..- تحت عنوان ”لعنة.. العهدة الثالثة”، استهدفنا فيه– على طريقة لالا شميسة- دروشة الرئيس بوتفليقة، فذكرناه بسابقة كل من بومدين والشاذلي- اللذين لم يكملا عهدتهم الثالثة– بالقول: ”مثل هذه السوابق– التي توحي بلعنة العهدة الثالثة– ربما تدخل في تقدير الموقف من جانب الرئيس ومعسكره، علما أن وضعية البلاد بحاجة أكيدة إلى رئيس في كامل قواه البدنية والعقلية”. وأضفنا: ”من باب الرفق بالرئيس نستنتج ،أن شعار (10سنين.. بركات) مناسب للحال تماما”. وأثناء الجدل الممهد لمراجعة المادة 74 من الدستور– التي تحدد الولاية الرئاسية بعهدتين– انتقدنا تصريح رئيس المجلس الشعبي الوطني آنذاك (عبد العزيز زياري) تحت عنوان: ”رجال.. متسللون”، دافعنا فيه عن المادة المذكورة باعتبارها من وضع النظام القائم نفسه. فهي من توصيات لجنة ”جزائر آفاق 2005” التي اشتغلت في مكاتب المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة، وقدمت حصيلة عملها في يونيو 1993. وقد انتقدت اللجنة بصفة خاصة ظاهرة الاحتكار السياسي وآثاره الخطيرة مثل: - ”الحيلولة دون بروز نخبة سياسية جديدة لها مكانتها في المجتمع، نخبة قادرة على ضمان استقرار المؤسسات واستمرارية الدولة”. - ”تفشي روح الزبونية القبلية في جميع درجات المسئولية”. – ”تدني روح المسئولية في مختلف أجهزة الدولة تقريبا”. ومن مقترحات هذه اللجنة: الاكتفاء في موضوع الولاية الرئاسية بعهدة من 5 سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة؛ فضلا عن إنشاء مجلس أمة كغرفة ثانية في البرلمان. وقد كرست مثل هذه المقترحات في دستور 1996 خلال عهد الرئيس زروال. وحسنا فعل الرئيس السابق في بيانه الأخير حين انبرى يدافع عن دستوره، ويذكر ببعض البديهيات الأساسية مثل: 1-النظام القوي بحاجة إلى معارضة قوية. 2- التداول على الحكم من شأنه أن يدعم التضامن بين الأجيال، ويعزز التلاحم الوطني، ويضع القواعد الأساسية للاستقرار الدائم. 3- إعادة النظر في المادة 74 من دستور 1996 أساءت بعمق للقفزة النوعية التي يقتضيها التداول على الحكم، وعرقلت مسار النهضة الوطنية وتطلعها لتحقيق مكاسب جديدة على طريق الديمقراطية. هذا جرد مختصر لآراء ومواقف مثقف، ما انفك يستنكر– بأدب- مظاهر اللامعقول الذي أريد للجزائر أن تعيش تحت رحمته منذ أكثر من ثلاثة عقود، في جحيم نظام يخيل للملاحظ أنه اتخذ من العبث ومن عدم الاستقرار سببا ومبررا لوجوده واستمراره. أليس من العبث هذه المهزلة التي يراد بها تمكين الرئيس بوتفليقة من عهدة رابعة وهو في حالة من العجز المتقدم ذهنيا وبدنيا؟ ثم أليس من العبث أن ندعي الديمقراطية ونخوض غمار التعددية بلا مذاهب سياسية ولا برامج ولا شخصيات؟ أما آن الأوان أن تتحرك القوى الوطنية الحية كي تضع حدا لهذا العبث المستفحل وعدم الاستقرار المزمن الذي يزداد اتساعا وعمقا عاما بعد عام؟ إن هذا العبث عنوان رئيسي لخطر قائم وداهم، لا يمكن الخلاص منه بغير الحد الأدنى من الاتحاد. نعم الحد الأدنى من الاتحاد، لوضع حد لعبث العابثين، وفتح آفاق التغيير المنقذ لجزائرنا الحبيبة شعبا ودولة.