لايزال ذلك المبنى الموحش المنتصب في أحد الأزقة الهادئة بحسين داي في العاصمة، يحتفظ في زواياه إلى اليوم بصدى صراخ الضحايا الثلاثة وهم يقاومون قاتلهم. خطوات الجاني مازالت تتردد في المكان وهو يغادر البيت في هدوء دون أن يرف له جفن أو يشعر بالندم، بعد أن نحر شقيقيه وأمه الواحد تلو الآخر، ليبيد عائلته عن بكرة أبيها. ينتابك شعور بالوحشة والرهبة والخوف عند المرور أمام ذلك البيت الذي شهد “مجزرة” حقيقية قبل ست سنوات، اقترفها هشام ذو الأربعة وعشرين عاما، الابن البكر لعائلة من أربعة أفراد. “الخبر” عادت لتسترجع تفاصيل واحدة من أعنف الجرائم التي شهدتها العاصمة. التاريخ 9 سبتمبر من سنة 2008، المصادف للثامن من شهر رمضان، الأم التحقت باكرا بمقر عملها في مستشفى نفيسة حمود “بارني” سابقا، حيث تشتغل كمساعدة اجتماعية.. أبناؤها الثلاثة ظلوا في البيت، وهم الابن البكر هشام ذو 24 عاما، أحمد 22 سنة ونادية 20 سنة. صلاة الظهر.. بدأت الجريمة كل شيء كان عاديا صباحا إلى أن حلت الظهيرة.. الموعد الذي اختاره هشام لبداية تنفيذ مخططه، نادى على شقيقته نادية إلى غرفته، هبت الأخت بسرعة كعادتها إلى غرفة شقيقها الأكبر، فربما سيطلب منها أن تحضر له شيئا، وصلت إلى باب الغرفة، وهناك لم يترك لها هشام مجالا لتسأله عن حاجته، أغلق الباب وأجهز عليها بطعنات على مستوى البطن والظهر ولم يرحم صراخها وعويلها لثنيه عن عزمه دون جدوى، وفي لحظات كانت الشابة جثة هامدة. صراخ نادية أيقظ شقيقها أحمد الذي هب بسرعة إلى غرفة شقيقه معتقدا أن شجارا بسيطا وقع بين هشام ونادية، لكن هول المنظر الذي وقف عليه وهو يلج غرفة هشام كان أكبر من ذلك، نادية ساقطة أرضا بلا حراك والدماء تنزف منها، وهشام ممسك برقبتها محاولا وضع البصمة الأخيرة لجريمته بذبحها، هجم أحمد على هشام محاولا إنقاذ شقيقته ظنا منه أن الحياة مازالت تنبض في قلبها، اشتبك الشقيقان، حاول أخذ السكين من يد شقيقه القاتل فسبب جرحا له، لكن الرغبة في القتل كانت أقوى. نجح هشام في أخذ السكين ووجّه عدة طعنات لشقيقه الأصغر كانت كافية لتجعله يلحق بشقيقته، ورغم ذلك لم يكن مشهد الجثتين كافيا لإطفاء الرغبة في القتل في قلب هشام الذي واصل جريمته بذبح شقيقيه، ليتأكد من أنهما أسلما الروح حقا. وبكل برودة دم، حمل هشام الابن البكر ومدلل العائلة جثتي ضحيتيه اللذين ائتمنه عليهما والده وهو يسلم الروح قبل سنة، ووضعهما فوق بعضهما جانبا، نظف المكان من بقع الدم، ثم استحم ليتخلص من دم شقيقيه، وخرج ليجلس في غرفته يترقب ساعة عودة والدته من عملها. دقت الساعة الثالثة، دخلت الأمر الثكلى إلى بيتها مثل عادتها، دون أن تعرف أنها فقدت ابنيها، وجدت ابنها الأكبر في استقبالها، سألته عن شقيقيه فطمأنها بأنهما لم يعودا من جامعتهما، لم يراودها أدنى شك أن شيئا مريبا يحدث، توضأت لصلاة العصر، جلست بين يدي ربها وفي هذه الأثناء باغتها ابنها وهي في وضعية السجود، ذبحها لتسقط جثة هامدة على سجادة الصلاة وهي ساجدة لربها لآخر مرة. ليلة بين الأموات بعد أن أباد عائلته بكاملها، استحم هشام مجددا، غيّر ملابسه وخرج إلى الحي، لم يبد عليه الارتباك، كان مثل عادته هادئا، تحدث مع الأصدقاء من أبناء الحي، ثم أخذ مفاتيح سيارة والدته القتيلة وطلب من أحد أصدقائه مرافقته إلى بواسماعيل بيت خاله وشقيق الضحية، لتمضية الوقت قبل أذان المغرب. عاد هشام قبيل الإفطار بقليل، صعد إلى بيته جلس بين ضحاياه، ثم خرج مجددا إلى الحي مثل عادته لتمضية سهراته الرمضانية، جريمته لم تغيّر من برنامجه، جلس ليتبادل أطراف الحديث مع “أولاد الحومة” ثم لعب “الدومينو” إلى أن انتهت السهرة وتفرق الجميع، عاد إلى البيت ونام ملء جفونه غير آبه برائحة الدم في كل زاوية من زوايا البيت. محاولة طمس الأدلة في اليوم الموالي، بدأ المخطط لطمس الجريمة، طلب هشام من رفيقه محمود مرافقته إلى مسقط رأس والده في مدينة بوسعادة متحججا بأنه لم يزرها منذ مدة، استقل سيارة والدته الضحية، وفي طريقهما إلى هناك توقف متحججا بأنه سيقضي حاجاته، نزل من السيارة حاملا كيسا.. كرر العملية عدة مرات، ورغم ذلك لم تراود الشكوك مرافقه. وصل الصديقان إلى مقصدهما، ومكثا هناك نحو 24 ساعة، فكر بعدها في العودة في اليوم الموالي، فهذه كانت خطته لإبعاد الشبهات عنه، تمثيل دور المصدوم الذي أبيدت عائلته في غيابه، ليتفاجأ بالجريمة عند عودته من سفره، وشهادة رفيقه في السفر وعائلته في بوسعادة دليل لا يقبل الشك على وجوده بعيدا عن مسرح الجريمة لحظة وقوعها وبراءته من دم إخوته براءة الذئب من دم يوسف. الإعدام للقاتل بعد انتهاء التحقيق، أودع قاضي تحقيق الغرفة الرابعة على مستوى محكمة حسين داي القاتل الحبس، ووجهت له تهمة التعدي على الأصول وجناية القتل العمدي مع سبق الإصرار والترصد، فيما أفرج عن صديقه محمود الذي بيّن التحقيق أنه كان يجهل مخطط المتهم. وبعد جلسات محاكمة ماراطونية، نطقت هيئة محكمة الجنايات العاصمة بحكم الإعدام في حق قاتل عائلته. من شاب هادئ إلى سفاح رغم مضي ست سنوات على الجريمة، إلا أن سكان حي الكالفير بحسين داي لم يستوعبوا بعد ما حدث، فالقاتل شاب متخلق، يصلي، هادئ ولم يسبق أن سبب المشاكل لعائلته، حظي بتربية جيدة وعائلته طيبة السمعة لم يسبق أن تسبب أبناؤها في أي مشاكل إلى أن اهتز الحي على خبر إبادة بالكامل، وعلى يد من؟ هشام الهادئ الخلوق. في غرفة التحقيق تم الاتصال بمصالح الشرطة على الفور، التحقت فرقة البحث والتحري لحسين داي من أجل مباشرة التحقيق، تم الاستماع لأقارب وجيران الضحايا، ثم بدأ البحث عن الأخ الأكبر الناجي الوحيد، قبل أن يتم توقيفه في حي عميروش بالقرب من مركز البريد وهو رفقة صديقه، وكانا عائدين لتوهما من بوسعادة. في مركز الأمن تم إعلام هشام بأن عائلته أبيدت عن آخرها، بدا عليه التأثر والمفاجأة، عرف أنه مشتبه فيه فأنكر مؤكدا أنه كان مسافرا، ورفيقه محمود وعائلة والده المرحوم في بوسعادة شاهدة على ذلك، غير أن إنكاره لم يدم طويلا بعد أن لاحظ المحققون الجرح الذي تسبب له فيه شقيقه أحمد وهو يقاوم قاتله، ليعترف بأنه القاتل. خطط للانتقام قبل سنة لم يرتبك هشام وهو يسرد السيناريو الذي اختاره ليزهق روح أفراد عائلته التي اكتشف أنه ابنها بالتبني قبل سنة، وهو تاريخ وفاة والده. قال إنه بوفاة والده فقد مصدر الحنان الوحيد له، مؤكدا أن عائلته كانت تسيء معاملته، كما أنه كان يحمل لوالدته وشقيقيه حقدا كبيرا، لأنهم، حسبه، أساؤوا معاملة والده أيضا في مرضه، فقرر أن ينتقم له بإلحاقهم به. وتبين أن سيناريو الجريمة كان الجاني ينوي تنفيذه في ثاني أيام شهر رمضان، حسبما جاء في اعترافاته، واختار أن يكون شقيقه ضحيته الأولى، حيث استدعاه إلى المستودع وحاول مباغتته من الخلف، غير أن الجرأة خانته في اللحظة الأخيرة، غير أنه حضر نفسه جيدا ووضع قلبه وأعصابه في ثلاجة لينفذ الجريمة المؤجلة في ثامن أيام شهر رمضان. وأظهر التحقيق أنه تخلى عن ملابسه وأداة الجريمة في طريقه إلى مدينة بوسعادة، وهي الأدلة التي عاد بها المحققون من الولاية بعد تنقلهم إليها. اكتشاف الجريمة تهب الرياح بما لا تشتهي السفن.. لم يمض وقت طويل على سفر هشام حتى اكتشفت الجريمة، شقيقة الضحية ارتابت في الأمر بعد اتصالها عدة مرات بهاتف شقيقتها إلا أنها لم تكن ترد، كذلك الأمر بالنسبة لخطيب نادية. قصدت الخالة الحي.. دقت الباب عدة مرات ولا أحد يرد، خوفها بلغ ذروته عندما أخبرها الجيران بأنه لا أحد من أفراد العائلة ظهر منذ يومين، شكت بأن مكروها أصاب عائلة شقيقتها، وبمساعدة من الجيران تم تحطيم باب الشقة، لتصطدم بهول المنظر جثة شقيقتها في غرفة الاستقبال غارقة في دمائها وهي ساقطة على سجادة الصلاة وأثار الذبح بادية عليها، وانتهى المشهد الدرامي بمنظر جثتي الشقيقين نادية وأحمد والدماء متجمدة عليها في غرفة الشقيق الأكبر هشام. الجريمة تحت المجهر المختصة في علم الإجرام الاجتماعي: سامية هميسي القاتل أراد الانتقام لوالده وإثبات بنوته أكثر من إخوته ترى الأستاذة سامية هميسي، مختصة في علم الإجرام الاجتماعي، في قراءتها لشخصية القاتل هشام الذي أجهز على كل أفراد أسرته في يوم واحد، أن فقدان الأب تسبب في اختلال مفهوم الاستقرار لدى القاتل، وجعله يفكر بطريقة إجرامية يحركها وازع قوي اختلطت فيه مشاعره بين الحب الكبير والامتنان الذي يكنّه لوالده الراحل وبين الرغبة في الانتقام والسعي وراءه والإبداع فيه. وأضافت المختصة أن وفاة الوالد جعلته لا يفكر في شيء إلا الانتقام من الأشخاص الذين اعتقد أنهم أهملوا والده المريض الذي كان يعتني به ويهتم لأمره، حسب تصريحاته “وهو بذلك يحاول إثبات بنوته لوالده بالتبني أكثر بكثير من أبنائه الحقيقيين”. وأردفت المختصة في علم الإجرام الاجتماعي موضحة “الاختلال في شخصية القاتل يظهر جليا في إحساس الشفقة الذي أبداه تجاه الوالد، بالمقابل تغيب هذا الإحساس أثناء إقدامه على طعن أخويه ثم إعادة ذبحهم بعد التأكد من موتهم، وهذا يدل على الغلّ الذي يكنّه لهم عند إجهازه على الوالدة وهي تصلي”.
