كشف التصريح الأخير للخليفة العام للزاوية التيجانية، الشيخ علي التيجاني، حول رفض الزاوية محاولة السلطات المغربية استغلال الزاوية ومحاولة إلغاء المركز الروحي للزاوية التيجانية الموجود في الجزائر، عن حرب سرية بين السلطات الجزائرية والمغربية حول من له الحق في قيادة الحركة الصوفية في شمال إفريقيا. إلى وقت قريب جدا سادت صورة نمطية للعلاقة بين صنّاع القرار في الجزائر والزوايا، فهذه الأخيرة بالنسبة لشريحة واسعة من الجزائريين تتحالف مع السلطات الحاكمة من أجل جلب أصوات الناخبين وحشد التأييد للحاكم، ويعتقد الكثير من الجزائريين أن الزوايا مقربة من الرئيس بوتفليقة دون غيره من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الجزائر، أو أنها تتقارب مع بوتفليقة أكثر من أي رئيس آخر. لكن التصريح الأخير للخليفة العام للطريقة التيجانية حرّك فينا الرغبة في البحث والتقصي عن سبب هذا التصريح والعلاقة بين هذه الزاوية وغيرها من الزوايا الجزائرية بالمغرب، وهل يوجد صراع بين الجزائر والمغرب للسيطرة على الزوايا؟ واجهنا منذ بداية البحث صعوبة كبرى، فبالرغم من العلاقة القوية لأغلب شيوخ الزوايا بأصحاب القرار في الجزائر، فإن أربعة من شيوخ الزوايا الذي حاولنا الحديث إليهم رفضوا الحديث حول موضوع الدور السياسي للزوايا وعلاقاتها بصنّاع القرار.
“نحن بعيدون عن السياسة وعملنا دعوي” يقول الشيخ معمر موليدي، أحد مقدمي زاوية سيدي أحمد النذري في ولاية أدرار، والتي لها فروع في غاو وتمبكتو بشمال مالي: “نحن نبتغي مرضاة الله تعالى في أعمالنا ونسعى لفعل الخير، فإذا التقى مسعانا هذا مع مسعى الخيرين سواء أكانوا حكاما أو محكومين، فإننا لا نرى مانعا في التعاون مع أهل الخير”. ويضيف المتحدث “إذا كان هدف الحاكم هو جلب السعادة والهناء للشعب وتسهيل أمور حياته، فما المانع من التعاون معه شرط أن لا يؤدي هذا التعاون إلى الإخلال بالواجبات الشرعية للزاوية”. ويؤكد المتحدث أنه يعرف كل المشايخ في الزوايا بالجزائر وأنه لم يسمع في حياته أن السلطة طلبت من شيخ زاوية أمرا فيه مخالفة للشرع الحنيف.
العلاقات المتوترة بين الجزائر والمغرب قطعت الاتصال بين الزوايا في البلدين أدى غلق الحدود البرية مع المغرب قبل سنوات إلى تجميد 80 بالمائة من العلاقات بين الزوايا في الجزائر والمغرب، ويقول هنا الباحث عريفي سالم، مختص في علم التاريخ، “قررت كل زاوية سواء في المغرب أو في الجزائر العمل لصالح البلد الذي توجد فيه، لقد تحول الأمر إلى قضية انتماء للوطن، وخير دليل على هذا هو أن تأثير الزوايا المغربية الكبرى في الجزائر قلّ بل وتلاشى لصالح زوايا جزائرية المنشأ”. هذا الكلام لم يصرح به لنا شيوخ زوايا في توات أو في الأغواط، لكننا لمسناه وتأكدنا منه من خلال أحاديث جانبية مع طلاب العلم في زوايا أدرار. يقول الأستاذ مومني عبد الحفيظ، المتخصص في علوم الشريعة من جامعة قسنطينة: “ترتبط الزوايا في الجزائر والمغرب بعلاقات يعود تاريخها إلى قرون، إلا أن قرار غلق الحدود والعلاقات المتوترة بين الجزائر والمغرب منذ حرب الرمال، قلّصا التعاون بين الزوايا في الجزائر وفي المملكة المغربية”. يقول هنا الشيخ برهان محمد، وهو محب للزاوية الهبرية بالغرب الجزائري، ويطلق لفظ “محب” على كل ناشط في الزاوية لم يصل درجة “المشيخة”: “كنا في الستينيات من القرن الماضي لا نستطيع التفريق بين المغربي والجزائري في حلقات الذكر، بل إن أغلب من يحضر في الزوايا كانوا مغاربة، لكن الوضع تغيّر بعد السبعينيات، حيث انقطع الاتصال مع المغاربة. وترتبط اليوم الزوايا في أدرار بعلاقة كبيرة جدا مع الزاوية الطاهرية بمراكش في المغرب بحكم أن هذه الزاوية أسّسها الشيخ مولاي طاهري، وهو من توات بأدرار، ويشرف عليها حاليا الشيخ مولاي عبد المعطي، وهو أخ مؤسس زاوية قصر تسفاوت الشيخ مولاي أحمد طاهري”. ويضيف محدثنا: “إن الزيارات بينها قلّت في السنوات الأخيرة بحكم غلق الحدود البرية، لكن الاتصال موجود بينهما ويتمثل خاصة في تبادل الإصدارات والمراجع الدينية الجديدة وحتى تبادل المشورة حول الفتاوى في المسائل المستجدة، كما يتم أحيانا تبادل القصائد الشعرية التي يكتبها أحد الطرفين ويتم عرضها على الطرف الآخر بهدف إبداء وجهات النظر فيها”.
حكام ليبيا كانوا.. جزائريين أطاح الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد معمر القذافي في ليبيا ضد الحكم الملكي العام 1969 بحكم الملك محمد إدريس السنوسي، وبادر القذافي في سنوات حكمه الأولى إلى قف كل نشاط للزوايا السنوسية لدرجة اختفت معها هذه الطريقة في ليبيا في عهد القذافي. وتقول المراجع التاريخية إن الملك سنوسي أصوله جزائرية، حيث ولد جده محمد بن علي السنوسي في منطقة منداس التابعة في الوقت الحالي لولاية مستغانم، وكان ذلك العام 1787، وجاء من نسله حكام ليبيا الذين قادوا المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي، بل إن مقاومة البطل الشهيد عمر المختار كانت في إطار المقاومة السنوسية للاحتلال الإيطالي. وقد أسست الطريقة السنوسية في الجنوب بليبيا، وهي طريقة صوفية إصلاحية، تمكنت من إقامة زوايا لها في كل أرجاء ليبيا. وتشير مصادر تاريخية إلى أن اسم سنوس مشتق من اسم جبل أسنوس الواقع في ولاية تلمسان، وقد سميت قبيلة جزائرية تقيم على مقربة من هذا الجبل باسم قبيلة بني سنوس. وما لا يعرفه أغلب الجزائريين هو أن آخر ملوك بني سنوس في ليبيا وهو محمد إدريس السنوسي كان يحسن وفادة أي جزائري يزور ليبيا. وتتحدث شهادات شخصية لبعض التجار كبار السن ممن عاصروا حكمه، عن أن السلطات الليبية في عهد الملك السنوسي كانت تعامل الجزائريين بطريقة خاصة جدا. لولا الزوايا لتحوّل شمال مالي إلى أفغانستان جديدة انطلق النزاع حول الزوايا في المنطقة مباشرة بعد “حرب الرمال” بين الجزائر والمغرب العام 1963، وتواصل أثناء النزاع حول استقلال الصحراء الغربية. ويفسر بعض العارفين بكواليس العلاقات السرية بين الحكومتين المغربية والجزائرية النزاع الخفي الذي ظهر للعيان حول الزوايا بين الجزائر والمغرب، بالنفوذ القوي لعدد من الزوايا في مناطق إستراتيجية بالنسبة للمغرب، والنفوذ القوي للزوايا في منطقة الساحل، التي توصف بأنها “الحديقة الخلفية للجزائر”، ورغم تراجع دور الزوايا في المنطقة بسبب تزايد نفوذ تيار الإصلاح الديني والتيار السلفي، فإن للزوايا شبكة من العلاقات القوية والمؤثرة مع أعيان وشيوخ القبائل في كامل المنطقة، بل إن للزوايا كلمة الفصل في الانتخابات في كامل المنطقة. يقول السيد تيفيري حسان، وهو عضو حلقة الزاوية القادرية في منطقة تمبكتو بشمال مالي، وعضو المجلس الأعلى للزاوية القادرية في العراق، وهو باحث أيضا في مجال المخطوطات القديمة: “لا يستطيع أي حاكم في الجزائر أن يتخلى عن دعم الزوايا في مناطق رڤان وأدرار، وهذا ليس بسبب نفوذ هذه الزوايا في منطقة أدرار بالجنوب الجزائري، بل بسبب النفوذ القوي والعلاقات المتشعبة جدا لهذه الزوايا في دول موريتانيا، مالي، النيجر، بوركينافاسو والصحراء الغربية، وفي كل مراحل التاريخ لجأت السلطة الجزائرية لزوايا منطقة أدرار من أجل ضمان الاستقرار في شمال مالي، والحصول على الكثير من الامتيازات وحتى المعلومات والتعاون مع القادة السياسيين”. ويضيف السيد تيفيري: “بينما يتزايد نفوذ التيار السلفي الجهادي في منطقة الساحل تفضل الجزائر الاعتماد على الزوايا بل وتمويلها ودعمها لمواجهة هذا الخطر، وتعمد حكومة موريتانيا للسير في نفس الاتجاه، وأذكر أنه في العام 2010 طلب أحد المقربين من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز من أعضاء في حلقات زوايا في مدينة تمبكتو وهي عاصمة الطرقية في غرب إفريقيا، السعي لمنع تزايد نفوذ التيار السلفي الجهادي في شمال مالي وفي منطقة الساحل، وأشار مستشار الرئيس الموريتاني الذي مكث في تمبكتو عدة أيام أثناء الاحتفال بالمولد النبوي، إلى أن دول المنطقة متفقة على أنه لا بديل عن دعم الزوايا لمحاربة التكفيريين”. ويعتقد حسان تيفيري أن تدمير المقامات وصوامع في تمبكتو بعد سيطرة حركة أنصار الدين وتنظيم القاعدة على مدينة تمبكتو، كان ردا على الحرب التي أعلنتها زوايا المنطقة ضد التيار السلفي الجهادي. وحول الطريقة التي واجهت بها الزوايا التيار السلفي الجهادي، يقول حسان إن الزوايا اعتمدت على زيادة عدد طلبة القرآن والعلوم الشرعية في المحاضر وعلى تنظيم لقاءات دورية مع وجهاء وأعيان القبائل في منطقة أزواد. ويعتقد محدثنا أنه لولا الدور الذي لعبته الزوايا في محاربة التيار التكفيري في المنطقة، لتحول شمال مالي إلى أفغانستان جديدة.
النزاع حول الزوايا في الصحراء الغربية يقول السيد حسان تيفيري “في العام 2003 تنقلنا إلى منطقة العيون في الصحراء الغربية في بعثة علمية موّلتها وزارة الأوقاف في موريتانيا وشاهدت مقدار الدعم الذي تحصل عليه الزوايا الموالية للتاج المغربي في الصحراء الغربية”. ويضيف محدثنا: “المغرب يخوض حربا عن طريق الزوايا، وقد فهم الرئيس الراحل هواري بومدين هذا الأمر جيدا فقرر التصدي للمغاربة بالأسلوب ذاته، فبدأ نفوذ زوايا منطقة توات أو أدرار لدى رئاسة الجمهورية الجزائرية، ويعود السبب إلى أن الأصل الأول للزوايا في منطقة الصحراء الغربية جاء من منطقة توات، أي أدرار في الجزائر”. وتقول المراجع التاريخية، حسب المتحدث، إن المتصوف الشهير الشيخ سيدي الركيبي تنقل من منطقة توات في الجنوب الغربي للجزائر في القرن السادس عشر بعد أن تعلم مبادئ التصوف وعمل على نشرها في الساقية الحمراء ثم جاء بعده متصوفون آخرون. وفي الفترة نفسها، أخذ الشيخ سيد أحمد العروسي طريقة سيدي عبد الرحمن المجذوب وسيدي رحال البودالى ونشرها في الساقية الحمراء أيضا، وأخذ سيدي محمد الطالبي الرقيبي الدرقاوية عن سيدي علي الدرقاوي. ويضيف المتحدث: “في الصحراء الغربية تجتهد الزوايا الجزائرية لانتزاع مكان لها في المنطقة والحصول على تأييد المريدين في المنطقة، لسببين: التصدي لمحاولة المغاربة استغلال نفوذهم الديني على الشعب الصحراوي والتصدي للتيارات السلفية الجهادية التي حصلت على موطأ قدم في المنطقة”. فرنسا استنسخت التجربة المغربية في التعامل مع الزوايا في الجزائر يقول الدكتور بافضل خليل المختص في تاريخ شمال إفريقيا القديم: يعتمد بعض المفكرين والسياسيين نظرة نمطية للزوايا في شمال إفريقيا ودورها أثناء فترة الاحتلال الفرنسي وقبلها. ويعتقد جيل كامل من المفكرين المتأثرين بالمدارس السلفية ومدارس الإصلاح الديني أن الزوايا تحالفت مع الاستعمار ودعمته وهذا تحليل سطحي للتاريخ وأحداثه، حيث قاد شيوخ الزوايا في الجزائر في مرحلة المقاومات الشعبية الأولى ثورات ضد الاحتلال الفرنسي، أهمها ثورات الأمير عبد القادر والشيخ بوعمامة والمقراني. وتكمن المشكلة في أن الاستعمار طيلة قرن و30 سنة قسّم الزوايا في الجزائر إلى 3 أقسام، فعمد إلى تدمير الزوايا التي ناهضت وجوده عن طريق مصادرة ممتلكات الوقف الإسلامي وحصار الزوايا التي تناهضه، بينما دعم زوايا أخرى قررت البقاء على الحياد في الصراع مع الاستعمار، ولم يتجاوز الدعم في أفضل الحالات عدم التضييق على النشاط الديني للزوايا مع وضعها تحت المراقبة من أجل ضمان ولاء فئات الشعب الجزائري للسلطات الاستعمارية، في حين فضّل تجاهل بعض الزوايا الصغيرة. وتتطابق هذه السياسة “الذكية” مع سياسة نظام المخزن في تعامله مع الزوايا، حيث قسّم ملك المغرب، حسب المراجع التاريخية، الزوايا إلى فئتين: الأولى حظيت بالدعم والثانية حوصرت. ويضيف الباحث الأكاديمي: “يعتبر سلطان المغرب أن الملك نفسه هو الوريث الشرعي لحركات سياسية دينية قديمة يعود تاريخها إلى 6 قرون، منذ عصر القائد التاريخي يوسف تاشفين. والمتطلع لتاريخ الأسرة الحاكمة في المغرب واستغلالها السياسي للتيار الديني، يدرك أن المملكة المغربية الأولى اعتمدت على ولاء الزوايا لضمان الاستقرار السياسي”. ويوضح المتحدث بأن الصدام بين المغرب والسلطات الفرنسية بدأ في وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر، عندما اكتشفت الحكومة الاستعمارية الفرنسية النفوذ الكبير لبعض الزوايا في المغرب والجزائر على منطقة وسط وغرب إفريقيا، وقررت استغلال هذا النفوذ لصالحها بدعم الزوايا التي لا ترى مانعا من وجود سلطة استعمارية في المنطقة وتدمير الزوايا التي تناهض الاحتلال الفرنسي.