لا ينكسر الكتالان عن أمل ظل يراودهم منذ 300 سنة، ولا يملّون من حلم الانفصال عن إسبانيا وتأسيس دولة صغيرة، حيث زادت شعبية فريق برشلونة في تطعيم الشعور القومي للكتالونيين، ففريقهم الذي يبهر العام بإنجازاته ولاعبيه انخرط أيضا في هذا المسعى السياسي، وتبنى فكرة الانفصال والاستقلال، وأعلنت إدارة الفريق بشكل رسمي شهر سبتمبر الماضي دعمها لمسعى إقامة استفتاء شعبي يتيح للشعب الكتالاني الحق في تقرير مصيره. لا أحد يخرج من الفندق بعد الساعة 12.. من يريد المغادرة عليه أن يخرج قبل ذلك بكثير إلى بلدات سيجي أو طاراغونا فيدلسفيت القريبة من برشلونة.. هكذا كان أعوان الاستقبال في الفنادق يبلغون المقيمين فيها. في فندق “إير” في ساحة اسبانيا في قلب برشلونة، كان مسؤول الفندق يشرح لنا ولعدد من المقيمين في الفندق طبيعة الظرف الذي سيميز برشلونة اليوم 11 سبتمبر.. فبعد الساعة ال12 ستغص الشوارع بالكتالونيين القادمين من كل البلدات والمدن القريبة، ولا يمكن التكهّن بما سيحدث.. كثير من الترقب كان يسود المدينة التي كانت حتى ذلك اليوم مسيّجة في عناوين الصحف والقنوات التلفزيونية بكرة القدم وفريق برشلونة الذي غطى على كل مناحي الحياة فيها. قبل يومين من المسيرة المشهودة، كان فريق “آف سي برشلونة” قد لعب مقابلته في ملعب نيو كامب، كانت الفرصة مناسبة ليتحوّل الملعب الأسطوري إلى منبر سياسي.. في تلك المقابلة أكثر من غيرها، غطى علم الإقليم جوانب الملعب، كما علت الشعارات السياسية المطالبة بانفصال الإقليم، وفريق برشلونة وجد نفسه في قلب المعترك السياسي، وتحوّل بالنسبة لسكان إقليم كتالونيا من ناد ينشط في البطولة الإسبانية إلى “فريق قومي” يعبّر عن روح الشعب الكتالوني، ذلك أن مقابلات الفريق مع نادي العاصمة الإسبانية ريال مدريد، والذي يوصف ب«الكلاسيكو” الذي تنتظره أصقاع الدنيا، لا ينظر إليه الكتالان بالصورة نفسها.. فهو “داربي” يتجاوز إطار البطولة إلى محمل سياسي رمزي للصراع بين مدريد كعاصمة لإسبانيا وبرشلونة كعاصمة لإقليم كتالونيا. لكن هذا اليوم ليس لمداعبات ميسي و«آف. سي. برشلونة”.. اليوم، يوم هارب من عمر المدينة والإقليم الذي ضمّ عددا من المدن والبلدات القريبة من برشلونة.. ففي 11 سبتمبر من كل سنة يحتفل الكتالانيون بذكرى المقاومة الشعبية لما يعتبرونه الضمّ الغاصب لإقليم كتالونيا إلى مملكة اسبانيا قبل 300 سنة.. ففي 1713 حاصرت قوات مملكة فرنسا وقشتالة برشلونة التي كانت تابعة لمملكة هايسبورغ، وبعد 14 شهرا من الحصار، في11 سبتمبر 1714، استسلم الكتالانيون لجيش فرنسا وقشتالة وظلوا يحيون ذكرى هذه المقاومة. لكن ما يعطي للاحتفال بهذه الذكرى هذه السنة زخما هو تزامنها مع قرب موعد الاستفتاء المقرر في التاسع نوفمبر المقبل. فالخميس 11 سبتمبر 2014 هو يوم استعادة النفس السياسة في مدينة أغلقت على نفسها في مربع كرة قدم. قبل ذلك كانت المنشورات الداعية إلى المسيرة قد لوّنت الجدران والمساحات الإشهارية، تتحدث عن 300 سنة من المقاومة والمطالبة بالاستقلال والكيان الكتالوني. فقبل أكثر من شهرين من تاريخ 11 سبتمبر 2014 كانت الأحزاب المحلية، كحزب التحالف الديمقراطي وحزب الشباب الوطني الكتالوني والحزب الجمهوري، والتنظيمات المدنية قد جيّشت مناضليها، ودفعت بهم إلى الساحات والشارع على نطاق واسع لإلصاق المنشورات الداعية إلى المشاركة في المسيرة الضخمة، لينظموا للمسيرة وذلك بحملة إعلامية كبيرة على القنوات والإذاعات المحلية، ورافق ذلك دعوة إلى السلمية وعدم استعمال العنف.. إحدى المنشورات كانت تصوّر شبان يعتدون على شرطي إسباني، وضعت على المنشور دائرة حمراء، في إشارة إلى مطالبة المشاركين في المسيرة بعدم التعرّض لرجال الشرطة. ففي عديد المرات السابقة حدثت مشاحنات ومصادمات بين المتظاهرين ورجال الشرطة، وهو أمر كان يحسب ضد الانفصاليين ومطالبهم. القنوات التلفزيونية بدأت مبكرا استعداداتها لتغطية المسيرة المقررة.. الفرق بين هكذا مسيرات جرت في السنوات الماضية ومسيرة هذه السنة أن الأخيرة تسبق بأقل من شهرين موعد الاستفتاء الشعبي حول الانفصال المقرر في التاسع نوفمبر الجاري، أي بعد يومين، رغم ما أثير بشأن دستوريته من عدمه، بعدما أصدرت المحكمة الدستورية الإسبانية حكما بعدم شرعية إقامة الاستفتاء، وربما كان هذا الحكم المتزامن مع رفض سياسي للحكومة والبرلمان الإسباني في مدريد الدافع الأبرز الذي شحن عنفوان الأحزاب والتنظيمات المحلية المنظمة والمشاركة في المسيرة، واضطرها إلى بذل أقصى ما تستطيع لاستعراض قوتها الشعبية في مسيرة 11 سبتمبر، وتكريس الانفصال كمطلب سياسي يتبناه شعب الإقليم. ليست الشوارع وحدها من تستعد لليوم المشهود، ولزحمة المتظاهرين شرفات المنازل تشارك هي أيضا في الحشد الشعبي.. على شرفات كل المنازل العلم الكتالوني المخطط بالأصفر والأحمر وفي وسطه نجمة الاستقلال.. وعلى شرفات بنايات المؤسسات الخاصة التي تدعم مطلب الاستقلال، كما في المؤسسات الحكومية المحلية، يرافق العلم الكتالوني العلم الإسباني، كما الفنادق التي يدفع أصحابها بالمطلب نفسه. وعندما كان الصباح يسدل أولى خيوطه على يوم برشلونة المشهود، كانت جموع من المنظمين قد انتشرت في الشوارع الرئيسة لتوجيه المشاركين في المسيرة، وضبط آخر الترتيبات المتعلقة بها. كانوا على لونين، بعضهم يرتدي قمصان حمراء عليها العلم الكتالوني، وبعضهم الآخر يرتدي قمصان صفراء عليها الرسم نفسه.. في الشوارع نشر الناشطون في التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية المحلية التي تطالب بالانفصال خيما لبيع هذه القمصان. بالنسبة إلى آنخيل، الناشط في جمعية “برشلونة الوطن”، مهم رسم صورة جميلة في يوم سياسي بامتياز، وتوحي الألوان كما توحد المطلب السياسي نفسه. ثمن هذه القمصان يتراوح بين 15 إلى 20 أورو، إضافة إلى الأعلام الكتالونية التي تباع أيضا بالثمن نفسه بحسب حجمها. لم تكد الساعة الحادية عشرة صباحا تدق حتى كانت ساحة إسبانيا وسط برشلونة قد بدأت تغص بالجموع، وبدأت حركة النقل العام والسيارات تقل شيئا فشيئا، فقد قررت الحكومة المحلية غلق المدارس والجامعات، وتوقيف النقل وحركة السيارات في الشوارع التي ستمر منها المسيرة الحاشدة بدءا من منتصف النهار، وذلك ما كانت تدل عليه التعليمات التي نشرتها الحكومة في الصحف والقنوات التلفزيونية وعلقت في الساحات العمومية والحافلات أيضا.. في الواقع لم يكن ثمة ما يدعو إلى الخوف، والتعليمات التي أبلغتها الفنادق لمرتاديها والإجراءات التي اتخذت في برشلونة لم تكن إلا من باب الاحتراز مما قد لا يكون في الحسبان، والخوف من شغب قد ينجم، إما من زيادة مستوى الاحتقان في برشلونة بسبب المعارضة الشرسة التي تبديها الأوساط البرلمانية والحاكمة في مدريد إزاء محاولة الإقليم الانفصال، أو بسبب تضخم الأنا التاريخي وفيضان الشعور القومي في لحظة عابرة، قد تشعل نار الغضب وتحوّل سلمية المسيرة إلى مصادمات عنيفة. لم يحدث شيء من ذلك كله.. كان المشاركون في المسيرة في قمة السلمية والمطالبة المتحضرة بما يعتبرونه “الحق الوطني”.. كانوا يستمتعون بالموسيقى الوطنية التي كانت تعزفها الفرق الموسيقية وفرق الكشافة وأطفال المدارس الذين حرص سكان الإقليم على تعليمهم اللغة والهوية الكتالونية، ويزرعون فيهم الشعور القومي. ما يؤجج الشعور القومي للكتالونيين أيضا، تقصير، أو هكذا يحسبونه، الحكومة الإسبانية في منح الإقليم استثمارات تحسّن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسكان الإقليم، برغم أن كتالونيا تمثل 20 بالمائة من الاقتصاد الإسباني، وبرغم أن الإقليم يموّل من خلال الأنشطة الاقتصادية والسياحية الخزينة الإسبانية بملايير الأورو من الضرائب والعائدات المالية، لكنه يحصل في المقابل على ميزانية سنوية تقلّ بكثير من العائدات التي دخلت إلى الخزينة الإسبانية من الإقليم الذي تمر عبره 70 بالمائة من السلع والتبادلات التجارية الإسبانية مع أوروبا. في عام 2013 اعتبرت الأحزاب الكتالونية أن الحكومة في مدريد دفعت أقل من 19 مليار أورو، ما كان يتوجب دفعها إلى الحكومة المحلية في كتالونيا، ولذلك يعتبر سكان الإقليم الذين يمثلون 16 بالمائة من مجموع سكان كتالونيا أن الحكومة في مدريد “تستغل” الإقليم، برغم بعض الامتيازات التي يتمتع بها سكان الإقليم، كالحكومة والبرلمان المحليين وتنظيم الشرطة المحلية وكذا تعليم اللغة الكتالانية. الخوف من المجهول ومن.. الفساد لكن ليس كل من في برشلونة منخرط في هذا المناخ، هناك من عبّروا عن استيائهم من تنظيم هذه المسيرة، ك«ماريا” العاملة في فندق “كراون بلازا”، والتي قالت إن “هذه المسيرة مضيعة للوقت.. السيّاح لن يأتوا إلى برشلونة إذا استمرت هذه المطالبات السياسية، ونحن بالتالي لن نعمل ولن نتلقى أجورنا”. لا تعبّر “ماريا” عن رأيها فقط، لكنها تعبّر عن الخوف من المجهول والمصير الغامض في حال لو تحقق الانفصال.. ليس سهلا بناء دولة جديدة ليس لها موارد كثيرة عدا السياحة والفلاحة والنقل وعائدات الضرائب، غير أن الخوف من المجهول ليس وحده من بات يتسلل إلى قلوب الكتالونيين.. فقضايا الفساد المالي التي تم الكشف عنها في الإقليم، والتي كان أبرز أبطالها الزعيم السياسي الانفصالي البارز في كتالونيا، ماس جوردي بوجول، والذي قاد الحكومة المحلية في الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي من 1980 حتى 2003، لا تشجع الكثيرين على الانخراط في مسار التحوّل من إقليم يتمتع بالحكم الذاتي إلى إقليم منفصل ومستقل بشكل تام عن إسبانيا، كما أن قضايا التدليس الضريبي وتحويل المال العام التي مارسها بعض قادة الأحزاب المحلية المطالبة بالانفصال، والشخصيات البارزة في برشلونة كالرئيس السابق للنادي الشهير جوسيب لويز نيونيز، والذي وصفت قضيته المتعلقة بالتهرّب الضريبي بقيمة 13 مليون أورو بالأكبر في تاريخ الإقليم الطامح للاستقلال، أمر لا يشجع الكثير من سكان الإقليم على الاستسلام للرغبة التاريخية والتي تغطيها العاطفة في أحايين كثيرة. اللافت أن عودة الشعور القومي والتهديد بالانقسام لا يجتاح الدول العربية والإفريقية فقط، لكنه وصل إلى عمق أوروبا، فالشعور القومي المتنامي في أوروبا، في كتالونيا في إسبانيا، والألزاس واللورين في فرنسا، والقرم في روسيا واسكتلندا في المملكة المتحدة، لا يخبو يهدد القارة العجوز. دمرت المدينة في عهد الحروب الإسبانية عام 1714، حيث أن الملك فيليب الخامس ملك إسبانيا هدم حي التجار في المدينة ليبني قاعدة عسكرية كجزء من معاقبة المدينة التي ثارت على حكمه. ومنع التحدث باللغة الكتالونية ومنع التدريس في جامعتها التي افتتحت عام 1450. أتبعت المدينة للإمبراطورية الفرنسية في عهد نابليون بعد أن احتل الفرنسيون إسبانيا، ووضع شقيق نابليون جوزيف بونابرت حاكماً للأجزاء المحتلة فيها. حررت المناطق المحتلة الإسبانية بعد سقوط نابليون. خلال القرن التاسع عشر الميلادي نمت المدينة خلال فترة الثورة الصناعية، إذ كانت مركزاً للعديد من الصناعات التجارية. خلال تلك الفترة عندما ضعفت سلطة مدريد على مدينة برشلونة، قام سكان المدينة بهدم سورها المبني في القرون الوسطى، وكذلك تم تحويل حصن “الريبيرا” إلى حديقة عامة. تقع مدينة برشلونة في الجزء الشمالي الشرقي من شبه جزيرة إيبيريا تطل على البحر الأبيض المتوسط، بين مصبي نهري يوبريغات وبيزيوس. تبعد 160 كم عن جبال البرانس، وتعدّ ثاني أكبر مدن إسبانيا بعد العاصمة مدريد. تعد برشلونة هي ثاني أكبر مدينة في إسبانيا من حيث عدد السكان. يبلغ حوالي 1.7 مليون نسمة، معظمهم من إسبانيا وكتالونيا، والباقي من المناطق الأخرى والمهاجرين حوالي 230.000 نسمة معظمهم من أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية، والدول الإفريقية خصوصا من المغرب والجزائر، ودول أخرى بنسبة أقل مثل باكستان. تقول بعض الأساطير إن “هاملسار بارصا”، والد حنبعل هو من أسّس مدينة برشلونة في المكان الذي توجد فيه برشلونة اليوم، لكن هذا غير مثبت. في القرن الخامس عشر قبل الميلاد اتخذ الرومان من المنطقة حصناً أو مخيماً لجيوش الدولة. في أوائل القرن 15 ميلادي سيطروا على المنطقة أفراد من القبائل الغربيين المهاجرين لشبه جزيرة إيبيريا ثم فتحها المسلمون في القرن الثامن الميلادي، إلا أن لويس بن شارلمان استطاع أن يفتح المدينة عام 801، وبقيت برشلونة تحت الحكم المسيحي حتى عام 985 عندما فتحها مرة أخرى القائد المسلم محمد بن أبي عامر المنصور، وتم استردادها من قبل الأيبيريين، حكّام كتالونيا عام 1137 ميلادي. وعمل حكام برشلونة بعد الفترة الإسلامية على توسيع كونتية برشلونة باسترداد المناطق المجاورة من الأندلس، جزر الباليار ومدينة فالينسا وأسسوا ما عرف بمملكة أراغون، والتي سيطرت على أجزاء واسعة من أراضي حوض البحر المتوسط خلال القرن الثالث عشر الميلادي.