المتأمّل لأحوال الأمّة يلحظ تلك الحقيقة المرّة المؤلمة، وهي أنّ العقل البشري قد تعرّض لعملية وأد واغتيال خطيرة بسلاح الوهم والخرافة، والدّجل والشّعوذة، وتلك واللّه طعنة سدّدت في خاصرة الإنسان العقلية، وهيهات أن تعمر الحياة وتشاد الحضارات بالمشعوذين البُله، الّذين لا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة وصيانة. ربّنا سبحانه بعث نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بالهُدى ودين الحقّ، فأبطل به مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشّرك والوثنية، وفي طليعة ذلك الأوهام والخزعبلات لما تمثّله من ازدراء بالعقول، فقد كان الواحد فيهم يعمد إلى حجارة فيعلّق بها آماله وآلامه، فيأتي ثعلبان فيبول عليها وينصرف إلى شأنه!! وآخر يعمد إلى تمر فيصنع منه إلها فإذا جاع أكله!! وهكذا انتشر سوق الشّعوذة والدّجل، وألغي التّفكير وسلبت العقول. إنّ الإسلام نأى بأتباعه عن أوهام الجاهلية، وطهّر أنفسهم من رجس الوثنية وأباطيلها، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف وبؤر الاستخفاف في كلّ صوره وأنماطه، ومنها مظاهر السّحر والشّعوذة والتّدجيل والتّجهيل، ومعالم الخرافة والتّضليل، بما تمثّله من شرخ خطير في صرح التّوحيد الشّامخ، وانهيار مُزْرٍ يسَلب القوّة، ويذهب العزّة، ويجلب الانتكاسة، ويلحق الهزائم، ويروّج لبضاعة التّخرّصات والخزعبلات، فيقع الاضطراب، وتحصل الفوضى في الأمّة، قال تعالى: {الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الْأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. الأكيد أنّ مظاهر السّحر والشّعوذة والدّجل ما حلّت في قلوب إلّا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلّا دمّرتها، وهذه الأوهام تزداد رواجًا لدى كثير من العامة فينساقون وراءها، تُرى أين عقول هؤلاء، وأين إيمانَهُم؟ أَوَليسوا يتلون قول ربّهم: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}، فتصديق أدعياء علم الغيب، وإتيان السّحرة والعرّافين، والكهنة والمنجّمين والمشعوذين؛ الّذين يزعمون الإخبار عن المغيّبات، أو أنّ لهم قوى خارقة يستطيعون من خلالها جلب شيء من السّعد أو النّحس أو الضرّ أو النّفع لهو ضلال عظيم، وإثم مبين، فعلم الغيب ممّا استأثر اللّه به وحده سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. إنّنا اليوم في زمان كَثُر فيه هؤلاء الدجاجلة، الّذين هم داء خطير وشرّ مستطير، فهم يقوّضون أمن المجتمع، فكم من بيوت هدّمَت، وكم من علاقات زوجية تصرّمَت، وكم من حبال مودة تقطعت بسببهم، فتعاطي السّحر وإتيان المشعوذين والدجّالين فيه جمع بين الكفر باللّه والإضرار بالنّاس والإفساد في الأرض، فكم في المجتمع من محترفي هذا العفن، ممّن يعملون ليل نهار لإفساد دين الأمّة، مقابل مبلغ زهيد يتقاضونه من ضعاف النّفوس، وعديمي الضّمائر، وهؤلاء الأراذل يتفنّنون في إغواء النّاس، فتارة يأتون من باب العلاج الشّعبي والتّداوي، وأخرى من باب التّأليف والمحبّة بين الزّوجين، يزعمون أنّهم يحبّبون الزّوجين لبعضهما البعض، وتارة كذا، وتارة كذا، أساليب وألاعيب شيطانية، وهكذا استشرى فسادهم حتّى ساد كثيرًا من المثقفين والمتعبّدين، يقول صلّى اللّه عليه وسلّم: “مَن أتَى عرّافًا فسأله لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا”. والغريب مع أنّ العالم يعيش عصر المدنية الّتي يفترض أنّها تناوئ الخرافة، وتناقض الشّعوذة، وتحارب الدَّجل، فإنّ المرء يعجب وهو يرى تطوّر الخرافة، فقد دخلت مجال الاقتصاد والاجتماع والإعلام، طلبًا لسراب موهوم، بل سخّرت بعض وسائل الإعلام لهذا العبث، ليعيش الكثير في حياة الوهم، وقد ركبت رؤوسهم الأوهام والوساوس، فإذا آلم أحدهم صداع، قال: هذا مسّ، وإذا أصيب بزُكام قال: هذه عين، مع أنّه من المقرّر أنّ الابتلاء سُنّة وتمحيص، والبشر عرضة للأمراض والأسقام. لم تكن أعمال الشّعوذة لتروّج في بعض المجتمعات، لولا ضعف الإيمان لدى الكثير من المسلمين، وانتشار المعاصي في كثير من البيوتات، فعلينا بتحصين أنفسنا بالرُّقى المشروعة، والأوراد المأثورة، فهي حصن حصين وحرز أمين، والمحافظة على أذكار الصّباح والمساء، وأدعية الدخول والخروج والنّوم، والإكثار من قراءة فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، وسورة الإخلاص، والمعوّذتين، فإنّها حرز لصاحبها بإذن اللّه، من كلّ داء وبلاء، فعن عثمان رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “ما من عبد يقول في صباح كلّ يوم ومساء كلّ ليلة: بسم اللّه الّذي لا يضُرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء، وهو السّميع العليم، ثلاث مرّات إلّا لم يضرّه شيء”. واللّه وليّ التّوفيق.