قال تعالى في سورة المائدة التي يبين فيها موضوعي الرشوة والفساد: “سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ” المائدة 42. إن الكذب وأكل السحت عاملان مهمان في انحلال النظام الاجتماعي وانهياره. فالكذب هو إخفاء الحقيقة وتحريفها. أما السحت فهو أكل الحرام ويطلق على كل أنواع الكسب غير المشروع ويعني الهلاك والبلاء. ويرى المفسرون أن السحت إشارة إلى الرشوة المتفشية على وجه الخصوص. فقد سئل النبي الأكرم محمد صلى اللّه عليه وسلم ما هو السحت؟ فقال: “الرشوة التي تؤخذ لتبديل حكم (القاضي)” (البخاري كتاب الإجارة 6). ويرى الإمام أبو حنيفة بطلان كل الأحكام الصادرة عمن يتلقى الرشوة، كما يرى وجوب عزله عن منصبه من قبل من عيَّنه، ويرى أيضًا أن من ثبت عليه أخذ الرشوة والفساد يُحرم من حق العمل في الوظائف الرسمية. فالرشوة والفساد خيانة للأمانة لأن بيت المال أو أموال العامة والإدارة والصلاحية كلها أمانات. وهناك من قال إن السحت هو شدة الطمع، أو هو عمل شائن ومخجل جدا. وإذا اجتمع السحت مع السماع للكذب نتج عن ذلك إصدار القاضي لحكم غير عادل مبني على البيان الكاذب. وما يدخل في هذا الباب الكسب الناتج عن الربا والسرقة الموافقة للقانون والفساد والرشوة والاستغلال والغش والفحش، وبيع الأعراض والخمر والمخدرات. وليس من السهل اتخاذ حكم عادل بحق من يسيّرون أعمالهم عن طريق الكذب والرشوة. فمهما حكم القاضي أو الحكَم بحكم سيرفضه الذين لا يحلو لهم ذلك الحكم. وكان بعض اليهود في المدينة والمنافقون يقولون إنهم يصدّقون قرارات النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم عندما يأتون إليه. والحقيقة كانت عكس ذلك تماما، لأنهم كانوا يأتون إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم منكِرين ويغادرونه كذلك منكرين، ولكنهم كانوا ينافقون كي لا تفضح حقيقة أمرهم. وطبعا كان اللّه تعالى يعلم عالمهم الداخلي وما تخفي صدورهم. ولم يكن يروق لهم تغيير سلوكهم وتصرفاتهم والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي اعتادوها. وإن نمط حياتهم وطريقة عيشهم كانت مبنية على الإثم والعداوة وأكل السحت. فهم يبيحون كل ما يدمر الإنسان أخلاقيا من الشهوات والنزوات، ولم يكونوا يودون التخلي عن ذلك. كما كانوا يعادون الحق والحقيقة، فقد كانوا يتنازعون فيما بينهم ويحافظون على وجودهم من خلال تعميق الخلافات والاستقطابات. وكان كسبهم غير مشروع من الناحية الأخلاقية والحقوقية، وهذا ما يُعبَّر عنه ب«أكل السحت”. وكانوا يتنافسون منافسة شديدة فيما بينهم، لأنهم يحاولون التفوق بعضهم على بعض في أكل السحت. والمؤسف في الأمر هو عدم قيام رجال الدين بمهامهم، فهم على العكس من ذلك– إلا من رحم ربي– كعامة الشعب لم يكفوا عن الذنوب والعداوة وأكل السحت. وللتفريق بين ما يقوم به عامة الناس وما يقوم به علماء الدين، فقد أطلق الرازي على أعمال الناس مصطلح “العمل” وعلى أعمال علماء الدين مصطلح “الصنع”. فالعمل هو أن يرتكب أحدهم الحرامَ أو السوء أو الممنوع دون دراية تامة بحرمانيته. أما ارتكاب الإثم بدرجة الصنع والصنعة يكون بوعي متجذر ودراية بالأمر. وهذا هو الفرق بين السوء الذي يرتكبه العوام من الناس (الأعمال) وبين السوء الذي يرتكبه الإداريون والعلماء ورجال الدين (الصنع). فأعمال السوء من الفساد وأكل السحت والاستغلال وعدم الالتزام بالأخلاق والعداوة إذا شارك فيها الإداريون ورجال الدين فإنهم يشرعونها بشكل ما ويرسخونها ويجعلونها دائمة لأنهم قدوة لغيرهم والشعب يتبعهم ويحذو حذوهم. وانطلاقا من هنا فقد قال عبد اللّه بن عباس: “إن هذه الآية من أشد الآيات في القرآن الكريم”. كما يرى الضحاك أن هذه الآية هي أكثر آيات القرآن إخافةً. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في إحدى خطبه: “إن ما أهلك الذين كانوا قبلكم هو عدم نهي العلماء لهم”. فيجب على العلماء أن يستخلصوا الدروس والعبر من ذلك في خطبهم لأنهم قادة الرأي والمشايخ بصفتهم ورثة الأنبياء. وليست السلطة أو الحكم مهما كان أغلى وأثمن من حفظ الأمانة ومن مراعاة الأخلاق.