إنّ من شرّ المصائب الّتي تُصاب بها الأمّة فيضعف شأنها، ويقوّض صفاء عيشها، وتنغّص سلامة أفرادها وراحة بنيها وبناتها، أن تمتد فئات من أصحاب النُّفوذ والجاه والسّلطان فيها إلى تناول ما ليس بحق، فصاحب الحق عندهم لا ينال حقّه إلاّ إذا قدّم مالاً، وذو المظلمة فيهم لا ترفع مظلمته إلاّ إذا دفع رشوة. إنّ قراءة متأنّية في تاريخ الأمم، كما يحكيها القرآن الكريم، حيث نعت فيها الله عزّ وجلّ قوماً من السّابقين بأنّهم {سَمّاعون للكَذِب أكّالون للسُّحْت} المائدة:.42 إنّهم قوم طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان في صدورهم، فثقلت عليهم التّكاليف، وكرهوا الشّرائع فأحبّوا الكذب، وألفوا الزّور وسمعوه وسعدوا به، وكرهوا الحقّ ولم يسعدوا به، قال تعالى في وصفهم: {مِن الّذين قالوا آمَنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} المائدة:.41 وقوله تعالى: {ومِن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين} المائدة:.41 وقال: {لَم يأتوك يُحَرِّفون الْكَلِمَ مِن بعد مواضعه} المائدة:.41 وقال: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تُؤتوه فاحذروا} المائدة:.41 وختم في وصفهم، بعد أن أظهر عاقبة أمرهم ومآلهم الّذي ينتظرهم في الآخرة، {لهُم في الدّنيا خِزْيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم} المائدة:.41 إنّه وصف دقيق وإنشاء بديع عن حال نفوس مريضة قد استشرى الفساد في أحشائها، وسقطت القيم من حسابها، وسارعت بارتكاب الآثام، واجتراء في العدوان على الحقوق، وتهارش وتكالب على أنواع السُّحْتِ. لقد سيطر الشرّ على تفكيرها، وامتلأت بالحرام بطونها فاستباحت حمى الله ومحارمه، فاستغلّت نفوذها ومناصبها ومركز قرارها النّافذ لأكل السحت، وبذل الرشاوى، وتبادل المنافع الشّخصية لملء الجيوب وإشباع الغرائز والبطون، وكان من المفترض على هذه القوى أن تكون مؤتمنة على مصالح الأمّة ساهرة لخدمتها، أمينة على أموالها راعية لحقوقها محافظة على عهودها ومواثيقها. فالرّشوة خيانة عند جميع أهل الأرض، وهي في الإسلام أعظم إثماً وأشدّ مَقْتاً، لأنّها تخفي الجرائم وتستر القبائح وتزيّف الحقائق وتشيع الباطل، فبالرّشوة يفلت المجرم ويدان البريء، وبالرّشوة يفسد ميزان العدل الّذي هو أساس الملك، وهي المعول الهدّام للدّين والفضيلة والخلق. وبهذا فإنّ الرّاشي والمرتشي والرّايش بينهما ملعونون عند الله، مطرودون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم، وأضاعوا أمانتهم، وأغضبوا ربّهم، وخانوا أمّتهم، فهم في نفوس خسيسة وهمم دنيئة. والرشوة فوق هذا كلّه هي آفة الآفات، وكبيرة الجرائم الّتي ترتكب في هذا العصر، وهي شرّ وبال على الشعوب والأمم تحلق الدين والدنيا، وتقلب الموازين، وتختل المعايير، فيطفو شرار الأمّة على خيارها، ويعلو السفلة ويهوي الأسياد، ويصير أمر الأمّة عند رأي مترفيها، ومصيرها بيد منكريها وجاحديها، فتهلك مع الهالكين، وتتوارى إلى يوم الدِّين. فكم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيّعت، وكم من حقوق طمست، وما أضاعها وما طمسها إلاّ الرّاشون والمرتشون، فحسبهم الله الّتي عينه لا تنام، وويل لهم ممّا عملت أيديهم، وويل لهم ممّا يكسبون في يوم موعود ينتظرهم، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، وما ذلك على الله بعزيز، ويومئذ يخسأ الخاسئون. *مفتش التوجيه الديني والتعليم القرآني