إنّ للأمم أجالا، وأجل كلّ أمة يوم تتنكر لشهدائها الذين صاروا اليوم ترابا، هؤلاء لم يركبوا “هوندا” ولم يشيّدوا مؤسسات ولا مدّوا أيديهم على ما ليس لهم. إنّهم شهداء الحرية والوطن، هؤلاء أدوا واجبهم كما ينبغي أن يؤدى، لأنّ حلمهم الوحيد أن يجلس أبناء الجزائر على مقاعد الدراسة، ويتصافحوا صباحا، ويقفوا أمام سارية علم واحدة، وينشدوا “بلادي كم نحبّك”.. كلّ ذلك ليكبر حلمهم كبر الجزائر في عيون أعدائها.. هؤلاء من حقنا أن نحيي ذكراهم ونذكرهم بخير، نحتفي ونعتز بهم ونستلهم من مسارهم عبرا تصقل وجداننا، وتنير طريق مستقبلنا، لأنّه لا خير يرجى من أمة لا تحترم شهداءها. هؤلاء الذين رحلوا ولم يقولوا شيئا عن العودة، وإنّما تعالت صرخاتهم “نحن لا نستسلم ننتصر أو نستشهد ولا نموت”. كلّ ذلك من أجل أن تحرّر الجزائر ويرفرف علمها في المحافل الدولية وتحتل مكانة تحت الشمس مثل هذه القيم لا يجب أن ندوس عليها بأقدامنا، لأنّها اعترافا ضمنيا بنكران الجميل ودفنه في حلق الطيور. ومهما حاولنا أن ننسى أو نتناسى فإنّ الشهيد لا يموت، إنّها أعلى درجة الخلود مصداقا لقوله تعالى “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون”.. فهم كذلك يحبّون الحياة ولكن آثروا التضحية على الحياة الدنيا. هؤلاء من حقنا أن نحتفي بذكراهم، لأنهم ذاكرة جماعية لا تمحى وإلى الأبد وأكثر من هذا لا يحق لنا أن نقفز على تضحياتهم لأنها موقّعة بدماء طاهرة على أرض طهّرها الأجداد. إنّهم فعلا قامات وأشجار تشدّ الأجيال جيلا فجيلا. ولكن مضى نصف قرن وأزيد ولم نتمكن من خلق تقاليد تليق بالمقام، فلا ندوات تقام ولا قراءة تستلهم منها الأجيال دروسا، ولا أفلاما تعرض عبر قنواتنا، ولا كتابة تاريخية تحفظ كفاحهم ضد فرنسا. فرنسا آنذاك دولة ولا أعظم بإدارتها وترسانة جيشها، فارتكبت مجازرَ جماعية لا تُغتفر في حقّ شعب لا ذنب له عدا تشبّنه بأرضه ووجوده عليها منذ أمد بعيد، ورغم هذا تمرّ الذكرى وكأنّ لا شيء لم يكن، لأننا صرنا نمارس ثقافة محو الذاكرة ومسح وسلخ كل ما له علاقة بمقومات شعبنا وهويته التي لم نفصل فيها بعد، لماذا؟ بكل بساطة لسنا في مستوى تضحياتهم، وتصوراتهم المستقبلية لجزائر مستقلة نسينا وتناسينا رسالتهم، خطاب الوطن الذي يحفظ ماء الوجه وكرامة المواطن لينمي الانتماء ويشد أبناء الوطن الواحد ولكن كلّ هذا لم يقدر له أن يكون إلى ما سوف يصير، لأننا فعلا أنانيون بامتياز. صرنا نلهث وراء تحقيق مصالحنا ولم يعد الواحد فينا يفكر في الآخر، فتآكلنا واتسعت الهوة وأطلت ثقافة الحقد والإقصاء آلة مدمرة جارفة أمامها قيمنا وما ورثاه عن الآباء والأجداد، عمّ الفساد في البرّ والبحر وحلّت ثقافة الشّكارة ماحقة كلّ ما هو جميل في وطننا، حتى صار الوطن الآن مجرد فكرة والوطنية وسيلة ابتزاز. ولقد صدق الأعرابي قديما لما سئل عن الوطنية: “كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كلّ شيء ظلّه؟ قال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقا ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنّه في إيوان كسرى”. هذه المفارقة أحالتنا على وثبات ليست كلها بردا وسلاما، علما أنّ الشهيد ملك الإنسانية قاطبة ولا يحق لجماعة ما أن تتبناه أو تقفز على ما قدمه من تضحية من أجل هذا الوطن، لكننا، وللأسف الشديد والمربك في آن واحد، أننا نسينا لأننا لا نقرأ ولا نقدّر وجع الآخرين ولا نقف حتى وقفة تقدير واعتراف بما قدموه من تضحيات، تناسينا فضلهم عن قصد ورحنا نقفز قفزات في الظلام نجري ولا نعرف من الذي يجري وراءنا، وانقسمنا واحد يصفق لليسار والآخر يهوى الهروب إلى الأمام، وهنا ضيعنا أنفسنا ومستقبل أبنائنا، ولم نعد نؤمن إلا بجمع المال وتكديسه، ثقافة أبي لهب يحسب أنّ ماله أخلّده. [email protected]