اتركوا محساس يقول رؤيته للتاريخ مثل ما قلتموها وفرضتموها على الناس في الحلقة السابقة، تحدث الرائد هلايلي محمد الصغير، الضابط في جيش التحرير بالأوراس، عن ثلاث شخصيات قادت الأوراس بعد اعتقال البطل مصطفى بن بولعيد في 1955، وهم: مسعود شيحاني، عاجل عجول وعباس لغرور، وطبيعة العلاقة بينهم. وفي هذه الحلقة، انتقد هلايلي الحملة التي شنّت على شخص المجاهد أحمد مهساس بعد نشر “الخبر” آخر حوار له قبل وفاته، وطالب جهات لم يسمّها باحترام رؤية الرمز مهساس المتباينة حول تاريخ الثورة في ظروف بعينها، خاصة أن مهساس كان أحد الزعماء الذين كانوا يمثلون الثورة في تونس وينسق مع قادة الأوراس في مرحلة حساسة في بداية الثورة. هل كان مصطفى بن بولعيد على اتصال بأحمد مهساس في ليبيا؟ لا أعتقد أن سي مصطفى تمكن من الاتصال بأحد القادة في الخارج، لأنه طورد على الحدود بين تونس وليبيا وألقي عليه القبض هناك وزج به في السجن بتونس، وحاول الرائد “مونتاي” التأثير عليه في سجنه دون فائدة، وكانت النتيجة أن سي مصطفى هو من أثر في نفسية “الرائد مونتاي”، كما هو معروف، الذي أصبح يعمل على الحل السلمي وكان له الفضل في إخراج بعض المركزيين من السجن بعد أن عرض عليهم القيام بدور المفاوض، منهم “يوسف بن خدة”، ولما فشل في مسعاه قدم استقالته لاحقا. كيف غيّر بن بولعيد رأيه في شيحاني ثم عيّنه خليفة له على رأس قيادة الأوراس؟ بن بولعيد يدرك جيدا بأن أي شخص مهما علت رتبته لا يمكنه التأثير على استمرار الثورة في الأوراس، لأنها أصبحت قضية الجميع من الجندي البسيط إلى أعلى درجة في المسؤولية، ثم إن سي مصطفى لم ينزع ثقته من شيحاني، فقد أدرك بأنه لا يستطيع مواجهة الأخطار ولذلك أعفاه من المهمة، وعيّنه على قيادة الأوراس مع عباس وعجول كقيادة جماعية لا تعطي له ولغيره الحق بأن يخرج عن رأي الجماعة ويلحق الضرر بالثورة، أو يؤثر سلبا على مجريات الأحداث، والثلاثة منزهون عن ذلك بالتأكيد. مهساس كان شخصية مهمة في مسيرة الثورة، وكان ممثلها في تونس باسم أفراد الوفد الخارجي المتواجد في الخارج، وكان على اتصال دائم مع الأوراس الذي كان يمثّل العمود الفقري للثورة خلال سنتي 1955/1956، بمعية طالب العربي وعبد الحي، الذين كوّنوا قواعد خلفية في ليبيا وفي تونس، وبذلوا جهودا لتوفير متطلبات القتال للثوار تقول إن شيحاني ذكي، أين يبرز ذكاؤه؟ ثقافة شيحاني تؤهله لأن يلعب الدور المطلوب لفائدة نجاح الثورة، منها الرد على الإعلام الفرنسي ومنشورات خبراء فرق (صاص) باللغة التي يفهمونها، وقد برهن مع نوابه على إدخال أمور تنظيمية مهمة ساعدت على انتشار الثورة، خاصة مخاطبة الجماهير، لأنه كان خطيبا ماهرا، وهو من قرر منع التدخين لضرب الاقتصاد الفرنسي، وأشرف على إنشاء نشرية شهرية إعلامية تصدر باسم قيادة الأوراس باللغتين. وفوق ذلك، كما ذكرنا، كان لشيحاني طموح كغيره بأن يكون له دور في قيادة الثورة، ثم إنه كان يعتقد جازما بأن جهود الأوراس التي أجهضت مشروع الجيش الفرنسي بالقضاء على الثورة في مهدها بالحصار الغاشم الذي خصه لمنطقة الأوراس، تعطيه كل الحق في قيادة الثورة دون منازع، وتجنبا لأي حساسية أكتفي بذكر فكرته دون تعليق. هل استطاع شيحاني أن يملأ الفراغ الذي تركه بن بولعيد عند مغادرته الأوراس؟ لقد اجتهد في مهمته ويبقى النجاح نسبيا، حاول أن يسيطر على الأوضاع وأن يحدث تنظيمات جديدة بمشاركة نوابه، غير أنه خالف قرارات القائد مصطفى وذلك بمحاولة إلهاء نوابه عجول وعباس بمهمة الرقابة، وبدأت التأويلات تسمع على أنه كان يقصد الانفراد بأخذ القرارات وإلهاء نوابه بالجولات الرقابية التي يترتب عليها حتما الغياب عن مركز القيادة، وعدم تمكنهم من متابعة المستجدات بالرد المباشر على المراسلات اليومية بين القيادة المركزية وقادة النواحي. ثم إنه تجرأ على تغيير مركز القيادة من كيمل وسط الأوراس إلى الجهة الشرقية، لعله كان يسعى للتقرب من الوفد الخارجي، وهو ما جلب له انتقادات خاصة من طرف شقيق بن بولعيد الذي اتهمه بتعمد التخلي عن وسط الأوراس وغربه، وشقيق بن بولعيد لم يكن على انسجام معه ومع عجول، لذلك تركهما لبعضهما البعض، وهو ما أدى إلى تمرد “عمار بن بولعيد” عليه وطالبه بأن يتنازل له عن القيادة، لكن شيحاني صمد واستمر مسيطرا على القيادة إلى أن انتهى به الأمر إلى الاختفاء الأبدي كما هو معروف، ويبقى شيحاني قائدا ورمزا خالدا في عقول الأوراسيين. فرار سي مصطفى من سجن الكدية فاجأ الجميع، لأن الفرار من سجن الكدية ليس بالأمر الهين، لذلك فمسؤولية الثورة تقتضي من عباس لغرور وعجول تطبيق القوانين التي سنّها سي مصطفى بن بولعيد بنفسه، وهذا من باب التحفظ والحيطة وحفاظا على الثورة حتى ولو تطلب الأمر تنفيذها على سي مصطفى بن بولعيد نفسه وما هي أسباب الخلاف بين شيحاني والقادة الميدانيين؟ السبب يبقى غير واضح، بالتأكيد كما بيّنا أن شيحاني كان يدرك أن نائبيه (عجول ولغرور) متجذران أكثر منه في الميدان، بحكم أنهما أبناء المنطقة وبحكم التسيير اليومي للوحدات عن قرب، وأن علاقتهما بأفراد الوحدات المقاتلة قديمة تعود لما قبل إعلان الثورة لما كانا مسؤولين عن الأقسام في عهد الحزب. ثم إن بعده عن جمهور المجاهدين القاعديين كقائد عام، يفرض عليه مسؤولية المداومة في مركز القيادة الذي لا يمكن دخوله إلا بإذن مسبق، كل ذلك جعله يعيش في شبه عزلة أثرت على قراراته التي قد تتناقض مع رغبات الوحدات في القاعدة، الشيء الذي شجع “عمار” على المطالبة بوراثة أخيه في القيادة، وهو مطلب غريب لأن سي مصطفى نفسه أوصى بأن لا تسند أي مسؤولية لشقيقه، ولعله كان يتوقع منه هذا الانحراف بالذات. وفوق هذا كله، فإن شيحاني كان يرى نفسه قائدا عاما للأوراس المشهور بتضحياته التي لفتت انتباه العالم، من حقه اختيار المركز الذي يستقر فيه ويرتاح له، ومن حقه أكثر أن يطمح إلى مراتب أخرى خارج الأوراس تؤهله لأن يلعب دورا مميزا في قيادة الثورة، ولذلك بدأ يزحف بالتدريج نحو الحدود التونسية لحاجة في نفسه والله وحده العالم بالسرائر. لما عقد مؤتمر الصومام ونصب عبّان نفسه منسقا للجنة التنسيق والتنفيذ، راسل منسق الحزب التونسي (الحاكم) ليؤكد له أن ممثليه هم الطرف الشرعي وطلب منه المساعدة المطلقة لهم على حساب ممثل الوفد الخارجي مهساس الذي عزله وعزل طالب العربي وعبد الحي، وصدر في حق الثلاثة حكم الإعدام الذي نفذ في عبد الحي وطالب العربي وفرّ مهساس كما هو معروف، وعيّن عبان رجاله المقربين، منهم أوعمران وعميروش وأقاسي وآخرون عندما حدث خلاف بين عبان رمضان وأحمد بن بلة في مؤتمر الصومام، إلى أي طرف مال قادة الأوراس؟ الستة الخالدون كانوا قد اتفقوا على القيادة الجماعية وكلفوا بوضياف ليتولى مهمة التنسيق، وتركوا الفرصة لقادة المناطق لاختيار أسلوب التسيير الذي يناسبهم في ظروف الحرب القاهرة، حيث الاتصالات مقطوعة، ومع ذلك كان الوفد الخارجي هو المؤهل للتكلم باسم الثورة والعمل دبلوماسيا على جلب الدعم لها وتوفير ضروريات الحرب للثوار كالسلاح واللباس والمال والذخيرة، ولذلك بقي الأوراس على اتصال بهم بواسطة ممثلهم مهساس. وكان عباس لغرور يعقد اجتماعات تنسيقية دورية مع مهساس في تونس وفي ليبيا، وكان بن بلة يتابع الوضع في الأوراس باهتمام، الشيء الذي جعل عبان رمضان يتهم الأوراس بأنه يسعى لنصرة منافسه بن بلة، فسارع إلى إخضاعه لسلطته بالقوة حين حجز على إرادته، وقام بسجن وتصفية وتهميش قادته، كما هو معلوم وأولهم عجول وعباس. هل كان مهساس فعلا أحد زعماء الثورة، أم أنه كان يبالغ قبل وفاته رحمه الله؟ مهساس كان شخصية مهمة في مسيرة الثورة، وكان ممثلها في تونس باسم أفراد الوفد الخارجي المتواجد في الخارج، وكان على اتصال دائم مع الأوراس الذي كان يمثّل العمود الفقري للثورة خلال سنتي 1955/1956، بمعية طالب العربي وعبد الحي، الذين كوّنوا قواعد خلفية في ليبيا وفي تونس، وبذلوا جهودا لتوفير متطلبات القتال للثوار. ولما عقد مؤتمر الصومام ونصب عبّان نفسه منسقا للجنة التنسيق والتنفيذ، راسل منسق الحزب التونسي (الحاكم) ليؤكد له أن ممثليه هم الطرف الشرعي وطلب منه المساعدة المطلقة لهم على حساب ممثل الوفد الخارجي مهساس الذي عزله وعزل طالب العربي وعبد الحي، وصدر في حق الثلاثة حكم الإعدام الذي نفذ في عبد الحي وطالب العربي وفرّ مهساس كما هو معروف، وعيّن عبان رجاله المقربين، منهم أوعمران وعميروش وأقاسي وآخرون. وفي آخر أيامه، عوقب الرمز مهساس على تصريحاته التي أوضح فيها حقيقة الخلاف بينه وبينهم، فاتهموه وشوّهوا سمعته، حتى بعد وفاته، بأوصاف قاسية مثل (أناني ويشعر بالتهميش وأنه فقد عقله). والحقيقة أن مهساس شخصية لها رمزيتها كغيره من رموز الثورة، فلا يجوز تجريمه لمجرد أنه أدلى بشهادته للتاريخ، اتركوه يعبّر على رأيه كما كتبتم أنتم عن مؤتمر الصومام بما يخدمكم ويغطي على بعض الأخطاء، عليكم أن تتركوا الفرصة للأطراف الأخرى لتعبّر عن رأيها كما عبّرتم أنتم، ويبقى الحكم في الأخير للتاريخ. بعد اعتقال بن بولعيد وإعدام شيحاني بشير، هل أصبح عجول عمليا قائدا للأوراس بدعم من عباس لغرور؟ أول شيء، لا توجد نزعة للتنافس على القيادة بين عجول وعباس، بل كان هناك تنسيق كبير، ولا ثالث بينهم، والثقة بينهما كانت على أعلى مستوى إلى درجة التكامل، سواء من ناحية الشخصية أو المنطقة الجغرافية. فعباس لغرور ليس بإمكانه الانفصال عن منطقة الأوراس كعمق استراتيجي أساسي، خاصة أن المنطقة التي كان يقودها جنوبخنشلة جرداء وقد تسهل السيطرة عليها وفعلا الجيش الفرنسي سيطر عليها فيما بعد. ومن جهة أخرى، عجول سياسي محنك وذكي، بينما كان سي عباس لغرور رجلا عسكريا بحتا، لكنه كان مخلصا إخلاصا مطلقا للثورة، ولديه التزكية المطلقة للمجاهدين كقائد لهم، ولم تكن القيادة والسيطرة تستهوي عقله، لذلك كان الرجلان منسجمين ومتكاملين بشكل تام. هل كان لغرور وعجول شديدي التدين كما يروى عنهما؟ متدينان جدا، لكن تديّن عباس كان أكثر من تديّن عجول، فرغم أن عجول متدين وملتزم بالفرائض، لكن تديّن عباس ووطنيته يمكنني أن أقول بأنهما كانا أكثر منهما لدى الآخرين، وربما لا يفوقه في ذلك إلا مصطفى بن بولعيد. أنا عشت مع عباس لغرور، ويقول عنه كل من عرفه إنه كان مغرما بالمعارك، فليس لديه الوقت للبقاء في المركز وانتظار الرسائل للردّ عليها وإعطاء التعليمات وكتابة التقارير العسكرية والمدنية نهاية كل شهر.. فعباس لا يهوى العمل الإداري، بل يهرب منه ويطلب من عجول تولي قيادة منطقته، مع التنسيق فيما بينهما والقيام باجتماعات دورية مع بعضهما البعض، وهذه هي طبيعة العمل بينهما، فلا تستطيع تمييز من منهما المسؤول عن الآخر. عباس لا يحب العمل الإداري على خلاف عجول الذي يفضّل الاتصال وإعطاء الأوامر حسب طبيعة شخصيته القيادية السياسية، والآخر (لغرور) شخصيته عسكرية، لذلك كان عجول يعتبر عباس لغرور مسؤولا معنويا عنه. هل قال عجول لعباس لغرور صراحة ودون لبس بأنك “أنت المسؤول عن الأوراس”؟ قالها له فعلا، وحاول تجسيدها، لأن عجول عنده مشكل مع عمار بن بولعيد الذي يعد خصما له، ويعرف أنه لا يمكنه أن يكون المسؤول الأول عن الأوراس مادام عمار بن بولعيد لا يعترف به كقائد، بل أكثر من ذلك فصل عمار منطقة عجول (وسط الأوراس) وصار يسيطر على الطرف الغربي وعجول على الطرف الشرقي، لذلك فعجول كان يرى بأن عباس لغرور الأولى بقيادة الأوراس لأنه لم يكن له مشكل مع عمار بن بولعيد، فضلا عن ثقة عجول في عباس لغرور اللذين ليس بينهما أي شنآن (خلاف). بعد فرار بن بولعيد من سجن الكدية بقسنطينة، هل عارض عجول فعلا عودته لقيادة الأوراس وأرسل مراسلات إلى قادة النواحي يحذرهم من الثقة في سي مصطفى ويقول لهم “سجن فرنسا ليس كرتونا”؟ أولا: “سجن فرنسا ماهوش كرتون”، هذه المقولة قالها عباس لغرور ولم يقلها عجول. ثانيا: سي مصطفى بن بولعيد قبل إلقاء القبض عليه وضع قانونا داخليا بأن كل ضابط في جيش التحرير عندما يلقى عليه القبض لا يسترجع مهامه إلا بعد انقضاء مدة تتراوح ما بين أربعة إلى ستة أشهر حسب الرتبة، وفرار سي مصطفى من سجن الكدية فاجأ الجميع، لأن الفرار من سجن الكدية ليس بالأمر الهين، لذلك فمسؤولية الثورة تقتضي من عباس لغرور وعجول تطبيق القوانين التي سنّها سي مصطفى بن بولعيد بنفسه، وهذا من باب التحفظ والحيطة وحفاظا على الثورة حتى ولو تطلب الأمر تنفيذها على سي مصطفى بن بولعيد نفسه. وعجول، بحكم القيادة وتسييره للشؤون الإدارية، بعث رسائل (إلى قادة النواحي) تأمرهم بتطبيق التعليمات التي سنّها سي مصطفى على الفارين من سجن الكدية، ولم يذكر سي مصطفى بالاسم، هنا تدخلت الحساسية التي كانت لدى عمار بن بولعيد والجماعة التي كانت ضد عجول فضخّموا القضية، لكن شهادة لله سي مصطفى لم يحرج عجول بطلب تسليمه القيادة، ولم يذهب سي مصطفى إلى مركز القيادة إلا بعد أربعة أشهر من فراره من السجن ولم يكمل ستة أشهر، وبمجرد وصوله إلى المركز سلم له عجول قيادة الأوراس.