انتظر العقيد أحمد بن الشريف، قائد الدرك الوطني الأسبق، أكثر من 50 سنة ليعلن بأن المجاهد عبد العزيز بوتفليقة لم يطلق رصاصة واحدة على المستعمر الفرنسي، ولم يبق في الجبل سوى أسبوع واحد. العقيد بقي ما يقارب 13 سنة عضوا في مجلس الثورة– أعلى هيئة حاكمة في الجزائر باسم الشرعية الثورية- إلى جانب ”صديقه” بوتفليقة، دون أن يعترض أو يكشف حقيقة مساهمة هذا الأخير في الثورة. لكن ومهما كانت الأسباب السياسية أو الانتخابية أو تصفية الحسابات الشخصية أو الدوافع وراء هذا التصريح المتأخر، فيمكن القول إن العقيد بن الشريف قال ما قاله– عن حق أو باطل- والمعني المباشر باتهامه مازال على قيد الحياة، بل ويشغل أعلى مناصب المسؤولية في الدولة الجزائرية يستطيع أن يردّ وأن يكلّف من شاء بالرد نيابة عنه ويستطيع بعد مشيئة اللّه أن يضر وينفع، ولذلك يدخل هذا المعطى في خانة البحث عن البحث عن غربلة التاريخ وتمحيص الروايات القابلة للأخذ والرد. لكن ما لا يمكن تفسيره أو تبريره هو الخرجة غير الموفقة على الإطلاق للمجاهد ياسف سعدي في حق الشهيد البطل العربي بن مهيدي- عليه رحمة اللّه ورضوانه- حقا لقد فاجأ ياسف سعدي المتابعين، وصدم جزءا كبيرا من الرأي العام الوطني، وعرّض صورته كبطل من أبطال الثورة إلى الاهتزاز والانتقاص في أعين المعجبين به، وفي رأي جميع الغيورين على مآثر الثورة التحريرية المجيدة ورموزها التاريخية المشعة بإقدامه على الاستهانة بتضحيات رفاقه من الشهداء والشهيدات والمجاهدين وقادة الثورة، وتقديم صورة شائهة ومشوهة عنهم للأجيال التي تظل عرضة للغزو الثقافي وحرب التضليل والتسميم الفكري التي مازالت فرنسا تخوضها ضد الجزائر. فبعد يومين فقط من الهجوم الصحفي الذي شنّه ياسف سعدي على البطل الشهيد العربي بن مهيدي، بأنه لم يطلق رصاصة واحدة ضد الاستعمار الفرنسي، عاد ليؤكد في تصريح صحفي آخر بأن الشهيد العربي بن مهيدي حاول الفرار من العاصمة أثناء الإضراب مع مجموعة التنسيق والتنفيذ والتوجه إلى تونس، وأقسم باللّه أن الشهيد بن مهيدي لم يكن مطلوبا يوما من قِبل السلطات الاستعمارية، ولم يكن قائد الثورة بالعاصمة لأنه كان في لجنة التنسيق والتنفيذ التي كانت تسير الثورة في كل أنحاء الوطن، وأنه هو الذي استقبله عندما جاء أول مرة إلى القصبة. ويبدو أن سعدي نسي ما سبق أن قاله في إحدى شهاداته عن الشهيد العربي بن مهيدي بأنه تنقل إلى العاصمة في سنة 1956 للتحقيق في طبيعة التفجيرات التي كانت تهز العاصمة، للتأكد من أنها ليست من تنفيذ الحزب الشيوعي الجزائري الذي كان في صراع مع الحكومة الفرنسية من جهة، ومع جبهة التحرير الوطني من جهة أخرى، ولما تأكد بن مهيدي أن التفجيرات كانت أعمالا ثورية من تنفيذ شبكة ياسف سعدي في القصبة، قرر البقاء والإشراف شخصيا على قيادة معركة الجزائر. ورغم هذه التصريحات غير المنضبطة نضاليا وغير الدقيقة تاريخيا إلا أن ياسف سعدي قد تعرض بدوره إلى موجة من التشكيك والتجريح، حتى إن هناك من اتهمه بالخيانة والوشاية بالشهيد علي لابوانت، وأن ياسف سعدي قد تعرض إلى حكم الإعدام من قِبل الثورة في سنة 1955، وهي أقوال فاقدة للدليل والمصداقية على كل حال. كما أن وزيرة الثقافة خليدة تومي تكون قد تجاوزت حدود اللياقة والإنصاف في دفاعها الحماسي عن شرف المجاهدة زهرة ظريف بيطاط، التي اتهامها ياسف سعدي بإفشاء سر مخبأ الشهيد علي لابوانات ورفاقه من الشهداء والشهيدات- عليهم رحمة اللّه- عندما قالت ردا على تلميحات ياسف سعدي ضد زهرة ظريف بيطاط: ”راحت الرجولة، ولم يبق إلا حركى يهاجمون نساء الجزائر ومفخرتها”!. قد يكون ياسف سعدي سكت لمدة نصف قرن ثم قرر أن يفرغ ما في جعبته بما حملت من حق وباطل، ولكنه لا يمكن تصنيفه في خانة الحركى، وإلا أصبح تاريخ الجزائر المجيد مجرد حقل ألغام قابل للتفجير في أي وقت وبواسطة أي مدعي للبطولة أو حاقد على استقلال الجزائر. ولكن يبدو أن ياسف سعدي الذي اكتفى في شبابه بتمثيل دور صغير وهامشي في فيلم ”معركة الجزائر” سنة 1966، أراد بعد أن تجاوز سنه 86 سنة– أطال اللّه عمره- أن يسترجع دور البطولة المطلقة في شهادته عن معركة الجزائر. ولم يتردد في القول بأنه هو الذي فاوض الجنرال ديغول، الرئيس الفرنسي الأسبق، بواسطة العالمة الأنثروبولوجية الفرنسية ”جيرمان فيلون”، وعرض على سلطات الاحتلال الفرنسي إيقاف عمليات تفجير القنابل في أماكن تواجد الكولون (المعمرين)، مقابل إيقاف السلطات الفرنسية لتنفيذ حكم الإعدام في المجاهدين المسجونين المحكوم عليهم بالإعدام. وقد قبل الجنرال ديغول هذا العرض وأمر بإيقاف تنفيذ حكم الإعدام ابتداء من سنة 1958. هل جاءت هذه التصريحات المتأخرة والملفقة في منظور فتح معركة إعادة صياغة التاريخ للوصول إلى حقائق تاريخية تحمي الذاكرة الجزائرية وتحصن الهوية الوطنية، أم أنها مجرد انتفاضة للأنانية وادّعاء البطولة الكاذبة؟