❍رغم وجود ما يشبه الإجماع بين الفعاليات والحساسيات والفئات الجزائرية على ضرورة كتابة التاريخ الوطني وخصوصا تاريخ ثورة التحرير المجيدة والحركة الوطنية، وتوفير كل الإمكانيات لإنجاز هذه المهمة النبيلة والأساسية نظرا لما يختص به التاريخ من ميزات وأهمية في استلهام عبر ودروس الماضي وترشيد حركة الحاضر واستشراف المستقبل، إلا أن المرء يشعر بأن هذا التاريخ يدخل أحيانا منطقة أعاصير تهز الاستقرار وتبعث الشك والريبة في نماذج كبيرة للبطولة والتضحية في التاريخ الجزائري. وكعينة على هذا الاتجاه الذي يشكل حربا على ذاكرة الجزائريين نذكر التصريحات المتتابعة للمجاهد ياسف سعدي مسؤول المنطقة التاريخية المستقلة للجزائر العاصمة وأحد قادة الفدائيين والفدائيات الذين خاضوا معركة الجزائر ضد قوات الجنرال ماسو. لعل آخر خرجات المجاهد ياسف سعدي ذلك التصريح الغريب الذي أدلى به في (مارس2014 إلى إحدى الصحف الوطنية اعتبر فيه أن قادة الثورة من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ الذين قرروا تنظيم إضراب الثمانية أيام في جانفي 1957 لإثارة الاهتمام بالقضية الجزائرية في الأممالمتحدة ليسوا سوى مجموعة من الفرار، الذين فضلوا النجاة بجلودهم والفرار إلى تونس والمغرب وترك الشعب الجزائري يواجه مصيره العصيب أمام قوات المظليين الذين سلطهم الجنرال السفاح جاك ماسو على مدينة الجزائر وأحياء القصبة لتكسير الإضرار والقضاء على جهاز الثورة والانتقام من الشعب الذي شارك أو أيد الإضراب. قال ياسف سعدي: »بعد أن اتخذ قرار إضراب الثمانية أيام من طرف كل من عبان رمضان، وبن يوسف بن خدة، والعربي بن مهيدي وسعد دحلب، وكريم بلقاسم، والذي كان يهدف في الأساس إلى إسماع صوت الثورة الجزائرية إلى الرأي العام العالمي وإلى هيئة الأممالمتحدة، وأن الشعب الجزائري وكل هؤلاء وعوض أن يبقوا إلى جانب الشعب ويتقاسموا معه محنة الإضراب، فضلوا الهروب إلى خارج الوطن، وقد حاول بن مهيدي ذلك بدوره ولكن فرنسا ألقت القبض عليه قبل السفر إلى تونس«! ولم يكتف من يسمى ب »جنرال القصبة« بهذا بل زعم في تصريحاته الأخيرة أن الشهيد العربي بن مهيدي منظر الثورة الجزائرية لم يطلق رصاصة واحدة ضد الاستعمار الفرنسي وأن الشهيدة وريدة مداد لم تستشهد ولكنها انتحرت خوفا من أن يعتدي جنود الاحتلال على شرفها لأنها كانت جميلة جدا. والملاحظ أن كل من شملتهم لائحة »تهم« ياسف سعدي قد انتقلوا إلى رحمة الله قبل أن يصدر عليهم أحكامه، مع العلم أن ياسف سعدي سبق له أن نشر مذكراته في بداية الستينات وهي التي شكلت المادة الخام لسيناريو الفيلم الثوري الشهير (معركة الجزائر) الذي أنتجه المخرج الإيطالي جيوليو بونتيكورفو، ولم يذكر فيها هذه التهم الخطيرة في حق أبطال الجزائر وشهدائها وشهيداتها. صحيح أن المجاهد ياسف سعدي كان قبل هذا قد اتهم المجاهدة لويزة إيغيل أحريز وهاهي مازالت على قيد الحياة -أطال الله عمرها- بأنها لم تشارك في الثورة وأنه لم يعرفها مع أنها شقيقة زوجته أو بالأحرى مطلقته لأن زواج ياسف سعدي من مليكة لم يدم سوى بضعة أشهر، ولكن المجاهدة لويزة ردت عليه بقوة واتهمته بدورها بأنه هو من أفشى سر الفدائيين في القصبة. فبعد إلقاء القبض عليه من طرف مظليي الجنرال ماسو في أواخر سبتمبر 1957 في أوج معركة الجزائر، بأسبوعين، تمت محاصرة المنزل الذي كان يختبئ فيه الشهيد علي لابوانت والشهيدة حسيبة بن بوعلي ورفاقهم الشهداء وقامت القوات الفرنسية بتفجير ذلك المنزل في الثامن أكتوبر .1957 وإذا كان العقيد ياسف سعدي الذي يستعد لإصدار مذكراته تحت عنوان )مذكرات العقيد ياسف سعدي قائد المنطقة التاريخية المستقلة للجزائر العاصمة( قد أنكر صفة المشاركة في الثورة على المناضلة لويزة ايفيل أحريز، فإن جنرالات فرنسا اعترفوا لها بالماضي الثوري لأن شهادتها عن التعذيب في سجون الاحتلال الفرنسي هي التي حركت رد الجنرال بيجار في جريدة لوموند الذي اعترف فيه أن التعذيب كان شرا لابد منه في حرب الجزائر، كما أنها كسبت دعوى قضائية ضد الجنرال موريس شميث قائد أركان الجيوش الفرنسية الأسبق والذي كان يحمل رتبة ملازم أول أثناء حرب الجزائر، وشارك بهذه الصفة في تعذيب المجاهدة لويزة إيغيل احريز التي قررت رفع دعوى قضائية ضد ياسف سعدي وطالبت بإسقاط حصانته البرلمانية كعضو عن الثلث الرئاسي في مجلس الأمة حتى يتسنى لها مقاضاته. ولعل القضية التي أثارت العديد من ردود الفعل المستنكرة هي اتهام ياسف سعدي للمجاهدة زهرة ظريف بيطاط نائبة رئيس مجلس الأمة وزوجة الزعيم التاريخي الراحل رابح بيطاط رئيس المجلس الشعبي الوطني خلال حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، حيث اتهم ياسف سعدي كتاب زهرة ظريف بيطاط الصادر في سنة 2013 تحت عنوان مذكرات محاربة في صفوف جيش التحرير الوطني بأنه يحمل الكثير من الأكاذيب وألمح إلى أنها هي التي كانت وراء إفشاء سر مخبأ الشهيد علي لابوانت ورفاقه ولم ترد زهرة ظريف بيطاط على ياسف سعدي مباشرة ولكنها صرحت للصحافة بالقول: »إنني ثائرة ومستاءة وحزينة أن يتم بعد 50سنة من الاستقلال إخراج وثيقة صنعها المكتب الثاني للجيش الفرنسي (المخابرات العسكرية) للوصول إلى استنتاجات يعرف التاريخ والناس أنها مزورة«. واضطر ياسف سعدي بعد موجة الاحتجاجات وردود الفعل القوية التي صدرت من المجاهدين والمؤرخين ضد اتهاماته لزهرة ظريف بيطاط إلى القول بأنه ليس هو الذي صنع التهمة ولكنه اعتمد على وثيقتين من الأرشيف الفرنسي نشرهما المؤرخان محمد حربي وجلبير ميني في كتابهما الصادر عن دار نشر »لافايت« الفرنسية ودار القصبة بالجزائر تحت عنوان (الأفلان وثائق وتاريخ 1962/1954 وأنه طلب من أخته الزهرة ظريف إلى التوجه إلى العدالة الفرنسية لتصحيح الوقائع بالطعن في صحة الوثيقتين المنشورتين.ويدرك ياسف سعدي جيدا بأنه لو تم الاعتماد على وثائق الجيش الفرنسي وضباطه لكانت تهمة الوشاية بمخبأ علي لابوانت قد لصقت به هو لأن الجنرال السفاح بول أوساريس قاتل الشهيد العربي بن مهيدي قال في كتابه الأجهزة الخاصة في الجزائر 1957/1955 أن ياسف سعدي هو المسؤول الرئيسي عن اكتشاف مخبأ الشهيد علي لابوانت وأن ياسف سعدي تكلم مع المستنطقين »بتلقائية« وأنه: »كشف بالخصوص عنوان علي لابوانت الذي كان يختبئ في دار محصنة بالقصبة« وأضاف أوساريس بأن »شهرة علي لابوانت كانت تزعجه«! هل من المعقول والمقبول أن يصرح قائد ثوري في مستوى ياسف سعدي بعد أن تجاوز العقد الثامن من عمره بأنه لم يعد يخاف من أي شيء،ونتساءل مما كان أو بالأحرى ممن كان يخاف في السابق؟ وبالتالي يصدر اليوم كل ذلك الكم من الاتهامات في حق أبطال الثورة، ويفتح معركة إعادة صياغة التاريخ الوطني على مصراعيه؟