العبادات كلّها هي معراج للمسلم إلى الملإ الأعلى وارتفاع عن الماديات والخلود إلى الأرض، وعندما يحافظ المسلم على العبادات ويكثر منها يكشف الله له أشياء كثيرة من الغيب، لأنّ روحه تصفو وتشف وتكون مهيّأة لهذا الكشف. ورد عن الحَارثِ بن مالِك الأنصاريّ، أَنَّهُ مَرَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: “يَا حارِثُ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟” قال: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فقال: “انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً” قال: عَزَفْت نفسي عن الدُّنْيَا، فأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وإِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يعذّبون، قال: “يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ”، فهذا الصّحابي الجليل بلغ هذه الدرجة وكشفت له هذه الكشوف بالمثابرة على العبادة وقهر النّفس عن شهواتها. والصّوم من أعظم الوسائل لقهر الشّيطان والتخلّص منه وكسر الشّهوة، وكلّما قمع الإنسان الشّهوات كلّما ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة وتشبّه بهم، والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشّهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلّما انهمك في الشّهوات انحط إلى أسفل السّافلين والتحق بغمار البهائم، وكلّما قمع الشّهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقرّبون من الله عزّ وجلّ والّذي يقتدي بهم ويتشبّه بأخلاقهم يقرّب من الله عزّ وجلّ كقربهم، فإنّ الشّبيه من القريب قريب. فاحرص أخي الصّائم أن يكون صيامك معراجًا يعرج بك إلى الأفق الأعلى، ويرتفع بك إلى مصاف الملائكة، فالصّيام هو عبادة روحية بامتياز، ولا يحسّ بهذا إلّا من أدّاها على وجهها واستشعر حقيقتها.