إلى أي مدى يمكن أن يصل التقارب الجزائري الفرنسي بعد فتح الأجواء الجزائرية لعبور طائرات سلاح الجو الفرنسي في عملية “سرفال” بشمال مالي، وبعد مشاركة جنود جزائريين في احتفالات عيد فرنسا الوطني لأول مرة منذ استقلال الجزائر؟ رغم دهشة الشارع وعدد من الأحزاب السياسية في الجزائر من هذا التقارب مع مستعمر الأمس، فإن الخبراء يقولون إن سياسة الجزائر الخارجية تغيرت منذ بدأت رياح “الربيع العربي” العام 2011. الخبراء يشيرون إلى أن وطأة الوضع الأمني دفعت قادة الجزائر السياسيين والعسكريين، للتخلي ولو ظرفيا عن سياسة “الانكفاء على الداخل”، باتجاه منع الأخطار القادمة من خارج الحدود، خصوصا حدود دولتي ليبيا ومالي. وجاء الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له منشأة عين أمناس النفطية في شهر جانفي 2013، ليكرس هذا التوجه الجديد في سياسة الجزائر، سياسة تقوم على مبدأ “لا غاضب ولا خاسر”. ويعني هذا أن “الجزائر لا تقبل بأي خسائر تلحق بها، وفي مقابل ذلك لن تسعى لإغضاب قوى دولية بإمكانها أن تلحق بها الخسارة”. ويأتي هنا نموذج العلاقة بين الجزائروفرنسا كخير مثال لتفسير هذه النظرية، فطيلة نصف قرن أو يزيد، كانت العلاقة من جانب الجزائر- على الأقل- تتسم ب«التحفظ” ورفض التعاطي مع أي خطوة تبادر بها فرنسا في ما يخص الشؤون الأمنية في دول جوار الجزائر. لكن ظروف الحرب في ليبيا وسقوط النظام هناك، وما تبعه من سقوط النظام في مالي، وهذان عاملان تسببا في ميلاد جماعات متشددة وأنعش بقوة تجارة السلاح الحربي، كل هذه الظروف دفعت الجزائر للموافقة على فتح مجالها الجوي أمام الطيران الحربي الفرنسي لضرب “الجهاديين” في شمال مالي. بعدها جاء الرد سريعا من قبل الجماعات المتشددة، فقامت بعملية انتحارية تمثلت في اقتحام منشأة نفطية ومحاولة تفجيرها. والخطورة هنا بالنسبة للجزائر لا تكمن فقط في الأرواح التي سقطت، ولكن تكمن أيضا في كارثة تفجير الحقل النفطي لو تم، والكارثة الأكبر هي ضرب قوت الجزائريين، حيث إن 90 بالمائة من موارد البلد هي من عائدات بيع المحروقات. وبرأي المراقبين، فإن التعاون الاستخباراتي بين الجزائروباريس في شمال مالي، كان مؤشرا على تنسيق قادم يقوم على “المصلحة” وليس على “العاطفة”. وحتى قبل أن تؤكد الجزائر مشاركتها في احتفالات العيد الوطني الفرنسي الموافق ليوم 14 جويلية من كل سنة، أعلنت باريس الخبر في وسائل إعلامها. لكن من يسأل عن أسباب موافقة الجزائر على إرسال ثلاثة جنود لرفع الراية الوطنية في جادة الشانزيليزيه، عليه أن يسأل أولا عن زيارة وزير الدفاع الفرنسي جون إيف لودريان إلى الجزائر شهر ماي الماضي. ففي هذه الزيارة، أعلن لودريان أن “الجزائروباريس بحثتا صفقات تسليح للجيش الجزائري”. وقال آخرون وقتها إن “فرنسا تعتزم نصب قاعدة تنصت في جبال إيفوغاسن، على حدود الجزائرومالي، وقد طالبت الجزائر بالسماح لها باعتراض المكالمات في هذه المنطقة”. مراقبون آخرون قالوا إن الجزائر لم ترد التفريط في باريس بعد الفشل في الحصول على معدات حربية متطورة من واشنطن، وعبّر عن ذلك أولا النقد الذي وجهه الرئيس بوتفليقة لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري لدى زيارته الجزائر شهر أفريل الماضي، عندما قال “الجزائر أعطت أمريكا كل ما أرادت، لكن أنتم لم تعطونا التكنولوجيا”. كما عبّر عن ذلك لاحقا السفير الأمريكي المنتهية ولايته بالجزائر، هنر إنشر، بقوله “إن بلاده ترفض بيع طائرات دون طيار للجزائر لأغراض عسكرية، بسبب تعقيدات المسار القانوني في الكونغرس لبيع هذا النوع من الطائرات”. وهذا الموقف يعبّر عنه خبراء أمريكيون بوضوح، كما هو حال لاورنس فيلت، الضابط السامي السابق لدى وزارة الدفاع المدني الأمريكية، الذي قال “أمريكا ترى منطقة المغرب العربي ذات أهمية كبرى لفرنسا وشرق آسيا، من ناحية النفوذ والمصالح الاقتصادية، وأمريكا ترى أن المنطقة أضحت تحوز أهمية سلبية، لكونها مأوى للجماعات الإرهابية”. في المحصلة، يمكن القول إن الجزائر بدأت عهدا جديدا من العلاقات الدولية من بوابة فرنسا، لكن هناك سؤالا تصعب الإجابة عنه الآن لغياب معطيات وهو: هل هذه السياسة قرار من الرئيس بوتفليقة شخصيا أم قرار كل دوائر صناعة القرار في الجزائر؟