شهر رمضان لم يغيّر عادات النازحين لا تختلف يوميات المهاجرين النازحين من دول الساحل الإفريقي وخاصة من ماليوالنيجر، بشوارع تلمسان في شهر رمضان، مع باقي شهور السنة، وقد أصبحت العائلات الإفريقية بمثابة ديكور جديد في أرصفة وشوارع المدينة طيلة ساعات النّهار، وغالبا ما تلمح النساء والأطفال، في حين يغيب الرجال والشباب عن المشهد. سألنا عن مركز تجمّعهم وإقامتهم بعد نهاية يوم طويل وحار من التشرد والتسوّل، فدلّنا أحدهم على المكان المسمى “عرسة ديدو” خلف قلعة المشور، قريبا من حظيرة السيارات. شباب من سكان الحي يقومون بحراسة السيارات، سألناهم عن عدد الأفارقة المتواجدين بالحي وكيف يعيشون، ودون مقدّمات يجيب مصطفى “إنهم ضائعون، لقد توفيت امرأة إفريقية وقام السكان بتغسيلها ودفنها لأنها مسلمة، وامرأة أخرى وضعت حملها في الشارع. تعال معي هنا ينام حارس المخيم الفوضوي”، وأشار مصطفى إلى كوخ من ورق الكارتون في زاوية من زوايا الحي ّ “هنا ينام الحارس الذي يراقب الفراش والأثاث، ويمكنه مساعدتكم في فهم واقع المهاجرين الأفارقة”. وبعد دقات سريعة من مصطفى على “الكارتون” خرج الشاب “زينڤو” من نومه ومن كوخه وهو يفرك عينيه، كان الخوف والقلق باديين عليه ظنّا منه أننا من مصالح الشرطة وسنقوم بتوقيفه وترحيله، تدخل مصطفى بعفوية “لا تخف هذا صحفي ويريد مساعدتكم”. مصطفى كان يتحدّث بلغة فيها مزيج من العربية والفرنسية وحتى لغة الإشارة والصم البكم، لأنه من أكبر عوائق التعامل مع هذه الجالية النازحة، مشكل اللغة والتواصل. طلبنا من الشاب الإفريقي استظهار وثائق هويته لنعرف طبيعة تواجده بالتراب الجزائري، ولنعرف جنسيته وموطنه الأصلي، استأذن منّا وعاد إلى كوخه ثم خرج وهو يحمل بطاقة زرقاء اللّون، بعد التدقيق فيها علمنا أنه دخل التراب الجزائري بطريقة شرعية عبر الحدود النيجيرية الجزائرية منذ شهر فيفري من سنة 2014، وخاض رفقة عائلته سفرا شاقا نحو شمال البلاد واستقر به المقام بمدينة تلمسان، وحين سألناه عن مقصده وإن كان يريد الهجرة نحو أوروبا أو البقاء في الجزائر، أشار برأسه ويديه إلى أنه يريد المكوث هنا رغم قسوة الحياة وبدائيتها في المكان الذي تتجمع فيه العائلات التي يحرس متاعها ب”عرسة ديدو”. وخلال حديثنا للشاب الإفريقي بدأ يتجمّع حولنا سكان من الحي، وشرعوا في سرد شهاداتهم حول حياة ويوميات المهاجرين الأفارقة، لخضر قال لنا: “والله عيب على دولة تقول إنها غنيّة وتترك المئات من البشر يعيشون في الشارع، مرّ عليهم فصل الشتاء وهم على هذه الحال ونحن الآن في فصل الحرارة وشهر الصياّم، إنهم يقضون حوائجهم الطبيعية في الخلاء ويستحمّون في الهواء الطلق، لسنا ندري وضعيتهم الصحية، ورغم ذلك يتعاطف معهم السكان ويزوّدونهم بالماء الصالح للشرب وبالأطعمة والأفرشة”. تقدّمنا نحو مكان تجمّع النساء والأطفال ممّن تعذر عليهم الخروج في مهمّة التسوّل لجمع القوت والنقود، امرأة إفريقية من النيجر، ترتدي رداء أصفر فاقع اللّون، كانت تفترش قطعة من ورق مقوّى “كارتون” يتحلّق من حولها أطفال بادية عليهم حالة البؤس والتشرّد، رفضت في بداية الأمر الحديث إلينا ورفعت يدها إلى السّماء “أخاف أن نرحّل ونطرد من هنا، الجزائريون طيّبون معنا.. ولكن هذا لا يكفي تنقصنا الرعاية الصحية لأطفالنا.. قالت بفرنسية هجينة.. انظر إلى هذا الطفل عمره قرابة الثلاث سنوات.. إنه خلق الله..” طلبت منه إخراج يده اليمنى من تحت قميصه الصوفي الذي يرتديه رغم حرارة الجو.. وكانت المفاجأة أن الخالق سبحانه وتعالى خلقه بقدم ثالثة بدل اليد.. نعم قدم ثالثة بدل اليد، لم نستطع تصويرها بسبب رفض المهاجرة الإفريقية، وحتى الطفل الإفريقي ببراءته وكأنه يعلم أنه يحمل في جسده خارقة من خوارق الخلق، هنا تدخّل شاب من سكان الحي، هذه الحالة لو كانت في أوروبا، لنقلت إلى أكبر المستشفيات ولأجريت عليها الأبحاث والدراسات الطبية، السيدة الإفريقية قالت لنا “لا نستطيع العودة إلى الخلف.. إلى الصحراء والحروب والمجاعة.. نريد مساعدتكم لنستقرّ ويعيش أبناؤنا ويذهبون إلى المدارس.. لقد أصبحنا نشعر أنّنا نحرج سكان الحي الذي نتّخذ من ساحته الترابية ملجأ لنا، لكننا لا نملك حلولا أخرى، هنا.. أحسن من هناك”، مشيرة بيديها إلى الأرض التي كانت تجلس عليها. لا تختلف وضعية الجالية الإفريقية المهاجرة بشوارع تلمسان من حي إلى آخر من “عرسة ديدو” إلى محطة القطار ومحطة نقل المسافرين بحي الرحيبة، بؤس وتشرّد وحياة بدائية، وملامح شخصيات تمتزج فيها البراءة بالغرابة، تجمعات تتشكّل في أكثرها من النساء والأطفال وبدرجة أقل الشباب، أما الرّجال فحين تسأل عنهم.. فالجواب أنهم في العمل أو في مهمة البحث عن عمل. الجالية السورية أكثر غموضا وانغلاقا عكس ما كانت عليه مهمّة تحديد مكان تجمع المهاجرين الأفارقة بشوارع وأحياء المدينة، فإن مهمّة تحديد مكان إقامة العائلات السورية والحديث إلى أفرادها لم يكن بالأمر الهيّن. بحي الكيفان وبحي الزيتون في المداخل الشرقية للمدينة نحو وهران، تتجمّع قوافل السوريات من النّساء، أغلبهنّ بلباس أسود داكن يحملن في أيديهن جوازات السفر وبطاقات الإقامة. لم تعد اللهجة الشامية كافية لجلب الاستعطاف والصدقات وسط انتشار حرفة الاحتيال والنصب والتسوّل بين المهاجرين السوريين، وبمجرد ما تلمح السوريات عدسات التصوير يدخلن في حالة استنفار، بالهاتف تارة وبالصّراخ تارة أخرى من أجل إخبار الزملاء بوجود غرباء في المكان. سيّدة سورية تقترب من عقدها الخامس، قالت لنا “لماذا الصوّر يا أخ.. لو عندك صدقة أعطينا، ما عندك صدقة لا نريد صورا.. هل تريد أن يمنعنا بشار الأسد من العودة إلى سورية؟”، وانصرفت غير مبالية بنا تطلب صدقة من أصحاب السيارات، كل أنواع الصّدقات مطلوبة، مياه معدنية، نقود، مأكولات، السيّدة السورية وكأنها رئيسة المجموعة التي كانت ترافقها من نسوة وفتيات رحن يضربن بخمورهن على وجوههّن هربا من عدسة التصوير، وحين سألناهن أين يمكن أن يجدكن من يريد أن يقدّم إليكن مساعدة كريمة بعيدا عن التسول وصدقة الطرقات؟ قالت إحداهن وكأننا سرقنا منها الإجابة “بحي أوزيدان هناك نقيم”. توجهنا إلى الحي المذكور وهو امتداد لبلدية شتوان في مجمع تلمسان الكبرى، حي شعبي كبير يقول عنه سكانه إنه حي ثماني وأربعين ولاية، في إشارة إلى وجود الكثير من العائلات الجزائرية التي استقرت بأوزيدان قادمة من مختلف ولايات الوطن، ليصبح حي تسع وأربعين ولاية بعد وصول العائلات السورية التي فضّلت المكان بسبب انخفاض سعر مقابل الإيجار مقارنة بأحياء ومدن أخرى تحيط بعاصمة الزيانيين. التكتّم والغموض هما سيدا الموقف بالغرف والمستودعات التي تقيم بها العائلات السورية، فعادة ما يبقى الرجال هناك وتتوجه النسوة والأطفال إلى مفترق الطرق والشوارع المكتظّة بالسيارات لممارسة التسوّل. عند نقطة النهاية، لخط نقل المسافرين من تلمسان إلى أوزيدان وفي مرتفع من الحي، تتجمّع العشرات من العائلات السورية التي اختارت المكان للّجوء والإقامة. أفراد عائلة تلمسانية عريقة من حي بيروانة اعتادوا كل جمعة قبل رمضان على زيارة المكان، حاملين معهم طبق “الكسكسي” واللّبن والفواكه وحتى لعب الأطفال، يتفقدّون شؤون الأسر السورية اللاجئة وظلوا على هذه الحال لعدة شهورّ. قال لنا زكرياء “كنا ندفع مقابل الإيجار سبعة آلاف دينار في الشهر لصاحبة مسكن يقيم فيه سوريون، وصدفة سألنا صاحبة العقار عن قيمة الإيجار الذي تتلقاه من العائلات السورية فقالت لنا إنها تأويهم في سبيل الله ولا تأخذ عنهم مقابلا، عندها بدأت تساورنا شكوك حول تصرفات وغموض الجالية السورية، لا أقول كل الجالية، ولا أريد صرف الناس عن تقديم يد العون لهم، لكن صدقني المهاجرون الأفارقة أكثر بؤسا واحتياجا ونحن نقوم يوميا بإعداد وجبات فطور ساخنة نقدمها لهم قبل أذان المغرب”. اللاجئون السوريون نقلوا معهم إلى الجزائر تناقضات الحرب الأهلية الدائرة رحاها في بلاد الشام، فإذا كانت تلك المرأة السورية منعتنا من التصوير مخافة أن يمنعها الرئيس السوري بشار الأسد من العودة يوما ما إلى سورية، فهذه امرأة أخرى على باب المسجد شرعت في مخاطبة جموع المصلين وهي تشير إلى ابنيها قائلة “عائلة من سورية وهاذولا أبناء شهيد من الجيش الحرّ”، تناقضات قسّمت الشارع التلمساني في النظر إلى المسألة بين مؤيد ومشفق وبين ساخط ومتذمّر من انتشار العائلات السورية في الشوارع وأمام أبواب المساجد لطلب الصدقة والعون. عبد الإله بن أشنهو محامي ورئيس مكتب الهلال الأحمر الجزائري نحن بصدد ظاهرة هجرة وليس ظاهرة لجوء ❊ يعتبر المحامي والناشط الحقوقي، الأستاذ عبد الإله بن أشنهو، وهو يشغل أيضا منصب رئيس المكتب الولائي للهلال الأحمر الجزائري، أن انتشار المهاجرين الأفارقة والسوريين بالمدينة هو من قبيل الهجرة والإقامة المؤقتة ولا يحمل طابع اللجوء الذي يتميز بخصوصيات قانونية مختلفة. وقال محدثنا إن المعطيات التي بحوزته تشير إلى وجود حوالي خمسمائة مهاجر إفريقي من دول مالي، النيجر والكامرون، من بينهم قرابة الخمسين عائلة تتنقل من حي إلى آخر على مستوى المدينة، دون مأوى أو مخيم ثابت، ما صعّب نوعا ما مهمة التدخل والإسعاف، ليضيف “لقد خصّص مكتب الهلال الأحمر الجزائري بالتنسيق مع السلطات العمومية حملة واسعة للكشف الصحي لفائدة المهاجرين الأفارقة وقمنا بإجراء فحوص طبية وتحاليل مخبرية، وحتى الأطفال من صغار السن وهم قرابة الثمانين طفلا استفادوا من التلقيح والأدوية. ويقوم المتطوعون من فرق الهلال الأحمر بتوزيع وجبات الفطور الطازج والمتكامل كل مساء بأماكن تواجد المهاجرين الأفارقة، وفرحتهم بالفطور الرمضاني لا توصف، فيقومون بالدعاء للجزائر وأهلها”، مقدّرا أن السلطات العمومية لم تقصّر في التكفل بالمهاجرين رغم صعوبة التواصل معهم بسبب عوائق اللغة وكثرة التنقل وعدم الاستقرار في مكان واحد. وعن الجالية السورية لم يكن رأي الناشط الحقوقي والمحامي، عبد الإله بن أشنهو، مخالفا لرأي عامة الجزائريين، حين قال إن بعض السوريين يقصدون المكتب ويستفيدون من إعانات عينية، ولكن جنوح بعضهم لاحتراف التسوّل أضرّ بسمعة الجالية. وتطابقت وجهة نظره مع إفادات شهود عيان قالوا إنهم تعرفوا في العديد من المرات على شبكات مصغّرة لسوريات يستأجرن سيارات فاخرة ويتنقلن إلى بعض قرى الولاية رفقة أطفالهن للجلوس في أبواب المساجد ليشرعن في ترديد عبارات أصبحت مألوفة عند سكان القرى والمدن، في مشاهد طبيعية غيّرت تلك النظرة المثالية التي كانت تصنعها الدراما السورية على شاشات الفضائيات قبل بداية حرب الشام. الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان الجزائر مطالبة باحترام المواثيق الدولية التي وقّعت عليها ❊ من جهته، اعتبر فالح حمودي، ناشط حقوقي ورئيس المكتب الولائي للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، مكتب تلمسان، في لقاء ب”الخبر”، أن الحكومة الجزائرية ملزمة بتطبيق المواثيق الدولية والاتفاقيات التي وقّعت عليها لحماية هؤلاء المهاجرين القادمين من دول الساحل الإفريقي ومن الشقيقة سورية، مضيفا أن الجزائر ملزمة باتخاذ إجراءات للتكفّل الإنساني العاجل بالمهاجرين “الكل يرى كيف يعيشون مع أطفالهم ونسائهم بالشوارع وعلى الطرقات والأرصفة في العراء.. شتاء وصيفا.. دون تغطية صحية.. يعيشون يوميات صعبة وقوتهم من عائدات التسوّل والتشرد في وضعية غير إنسانية إطلاقا” حسب تعبيره. الناشط الحقوقي قال إن الجزائر مدعوة لتطبيق الاتفاقيات الدولية التي تخصّ وتنصّ على فتح المجال للمهاجرين من أجل الفحص الطبي، التمدرس والعمل، مع التعجيل في إقامة وتخصيص مخيمات تأوي المهاجرين وتحفظ كرامتهم الإنسانية، كما دعا الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني إلى الإسهام في التكفّل الإنساني بهؤلاء المهاجرين الذين هم في الأصل ضحايا نفي وحروب ومجاعة تعاني منها بلدانهم الأصلية، محذّرا في الوقت نفسه من تحوّل هؤلاء النازحين والقادمين خاصة من دول الساحل الإفريقي إلى قنبلة موقوتة، تمثل خطرا صحيا محدقا بالمجتمع الجزائري في حال عدم التّكفل بهم تكفّلا صحيا جادا.