الهرولة نحو التقليد.. ليس كل ما يلمع ذهبا! إن المتمّعن للسياسات الاجتماعية للدولة الجزائرية، وهي تعدّ دولة فتية إذا ما قورنت بسنوات الاستعمار الطويلة، يلحظ قلة حيلة ونقص خبرة في اختصار الطرق إلى الأهداف وتبديد طاقات وأموال ضخمة في جوانب ليست بالضرورية، مثلها كسائق عربة انطلق بسرعة متسارعة عيناه شاخصتان إلى الأمام دون أن ينظر إلى المرآة التي ترسم له ما قد يجري من خلفه– وفي علم السياقة لا تعطى الرخصة لمن جهل هذا– والمعلوم بالضرورة أن المستقبل لن يكون مشرقا إلا إذا استند على خبرة الماضي، هكذا يقول التاريخ وهكذا تعلمنا من سنن الحياة. التربية والتعليم في أي دولة هي عصب الحياة الأول، فالعلم والمعرفة هما عقل الأمة وقلبها النابض. السياسة التربوية في الجزائر، ابتداء من فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، لم ترسو على مبادئ محددة تستكمل بين عقد وآخر، فتركت للاجتهادات القاصرة، وغالبا إلى الأهواء الفردية، فكانت سمتها الغالبة هي الترقيع والتخبط في تجارب الآخرين الفاشلة. والمحزن أنها لم تستفد من أخطائها بقدر ما هرولت من فشل إلى آخر، على ضوء متغيرات عالمية جرفتنا إلى مجاراتها؛ فلا نحن ظفرنا بمشيتنا الأولى ولا نحن نجحنا في تقليد مشية الآخرين (كما يقول المثل). وفي النهاية نعيش ضياعا، أقل ما يقال عنه إنه ضياع على كل المحاور، وضياع إيديولوجي بالأساس، وهو ما نحصد نتائجه الآن، على مستوى الظواهر الغريبة التي باتت تقضّ مضاجع الساسة وعلماء الاجتماع وعلماء الدين، والأسرة بشكل خاص. عجائزنا تفوقت في الاستفادة من الطبيعة منهجية عجائزنا في الحياة أرقى بكثير من منهجية المنظرين للسياسات الاجتماعية، وإن كانوا صادقين. فالمرأة التي أشرفت على تربية رجل المستقبل، منذ لحظاته الأولى إلى أن يصل مقاعد الدراسة، هي نفسها التي عرفت كيف تصنع له رغيف الخبز فوق طاجين الطين الذي صنعته أناملها الساحرة، ولم تخطئ حين عرفت، رغم أميتها، أن الطبيعة لا تخطئ، فصناعة طاجين من الطين الجديد يتطلب إضافة جزء من طين طاجين قديم (تفّون)، كي يتماسك ويشد بعضه بعضا، لأن الطبيعة الكيميائية تفرض هذه المعادلة في تنشئة المادة، ومن شكّ فيما أقول فليسأل جدته. هذا المثل طبعا يقودنا إلى صلب ما نحن بصدد التأكيد عليه، وهو العدد الذي لا يستهان به من الخبرة التي أحيلت على التقاعد بنص القانون. طبعا لا نهدف إلى تمديد سنّ التقاعد، لأن الطبيعة قضت دورة القوّة والضعف، بيد أن العطاء الفكري لن يتوقف على شخص مهما تقدّم به العمر، وكل الغرض هو ألا تهدر هذه الخبرات أمام أعيننا لأنها ببساطة لن تعوّض، وتبقى الحاجة إليها ماسّة جدا، مهما حلّل المحللون ونظر المنظرون. يبقى السؤال هو: كيف نستفيد من هذا النهر المهدور، وهو ما كان ينبغي الالتفات إليه منذ زمن، فالأمم العظيمة لا تحيل عقولها على التقاعد، لأنها تشبه المحلول الذي يكشف بسرعة عن الأمراض والعلل الدخيلة على الأجسام، بحكم موروثه الحضاري والتنبيه إلى سرعة مكافحتها. هذه الطاقات المعطلة حتما ستدفع وتساهم في تنشيط العملية التكوينية للمربين الجدد وترقية مستوياتهم. الهيكلة والاستغلال اقترح إنشاء مجلس استشاري وطني للخبرة التربوية، يتألف ممن شهدت لهم الساحة التربوية فعلا تربويا مميزا أو سبقت لهم إسهامات وكتابات، أو كانوا أصحاب منابر تربوية معروفة من جميع الأسلاك، وبالأخص الذين تخرجوا من بين حجرات التدريس، لأنهم يحملون معهم الخبرة السريعة في توصيل المعلومة إلى التلميذ بأقصر الطرق وأيسرها وانجعها. المجلس الوطني للخبرة التربوية، أيضا، له فروع عبر كامل التراب الوطني على مستوى البلديات والولاية، يعطي رأيه في المستجدات الحديثة للتربية، بما يتمتع به من خبرة وكفاءة طويلتين، فعندما نقول الخبرة لا نقصد بذلك الجانب الأكاديمي للعملية، بل يتعداه إلى الجانب العاطفي وأبعاده وكيفية توجيه الناشئة على القيم الحقيقية التي تبني المجتمع وتحميه من مخاطر الغزو الفكري المدمر. هذا كله لن تنجح الكتب في الوصول إليه إلا بمرور سنوات طويلة، يمكن أن نختصرها في الجانب البشري المتمثل في الخبرة التربوية التي ظلت تحمل معها القيم الأولى للمجتمع، والمحصنة من مثل هذه المتغيرات العالمية، وأيضا نشأت على أيادي الصدق والإخلاص ممن كان لهم باع طويل في صناعة المستقبل. حين لم يكن متاحا لهم كل ما توفر لدينا الآن من إمكانيات، وبهذا يكون البناء قد اكتمل بين حكمة الشيوخ وإرادة الشباب، بين حكمة الإدارة وقوة الإرادة.