ارتفاع أسعار الإيجار بالعاصمة، رفض أصحاب السكنات الكراء للبنات العازبات، وعدم توفر المؤسسات والمدارس لإقامات داخلية للموظفات والطالبات، كلها ظروف دفعت بالكثير من الفتيات والنساء ممن فرضت عليهن الظروف المجيء والإقامة في العاصمة من أجل العمل أو الدراسة، اللجوء إلى السكن الجماعي، الذي وجدت فيه أخريات فرصة ثمينة للاستثمار المالي، جريدة “الخبر” اقتحمت هذه البيوت ونقلت شهادات فتيات ممن يعايشن الوضع. عروض السكن الجماعي للبنات، تقدّمها عادة نساء مطلقات، أرامل أو عازبات، حيث تقترحن تأجير غرف بيوتهن التي تتكون أغلبها من 3 غرف للموظفات والطالبات اللاتي تعملن في العاصمة، مقابل دفع المبلغ المالي المستحق شهريا، وفي أحيان أخرى يتم اشتراط الدفع المسبق ل 3 أشهر. ويقدّر سعر الغرفة لشخصين ب 30 ألف دينار شهريا، بحيث تدفع كل فتاة 15 ألف دينار، بينما يقدّر سعر الايجار ب9 آلاف دينار إلى 12 ألف دينار شهريا لكل واحدة في غرف تضم ثلاث أو أربع فتيات. وتبرر عادة صاحبة المنزل هذه الأسعار للفتيات بموقعه الاستراتيجي، حيث تنتشر أغلب هذه السكنات في شارع حسيبة بن بوعلي، شارع ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، تليملي، بئر مراد رايس، القبة، حسين داي وغيرها. حكايات ومعاناة تقول أمال التي التقينا بها في حي بلكور، إنها من وهران وتعمل في العاصمة منذ 10 سنوات، وأن هذه السكنات أصبحت تجارة رائجة، والأسعار مبالغ فيها بشكل كبير نتيجة تزايد لجوء الفتيات إلى هذا النوع من الإيجار. هذا الأمر أيدته نادية، طالبة من مدينة بوسعادة تحضّر لشهادة الماستر في مدرسة خاصة، معلقة: “درست الليسانس وكنت في الإقامة الجامعة، وفي الماستر وجدت نفسي مجبرة للعيش في سكن جماعي مقابل 9 آلاف دينار شهريا لأنني لا أملك الحق في الإقامة الجامعية”. حالة نادية تعبّر عن حالات كثيرة وجدت نفسها في وضع مشابه مع انتشار المدارس الخاصة من جهة، ومركزية المؤسسات والشركات الكبرى في العاصمة حيث تعلق حسينة، موظفة بالعاصمة منذ 4 سنوات “كل فرص العمل في العاصمة، ولو كنت أستطيع طلب تحويل إلى الشرق لفعلت”. نفس الشيء تتحدث عنه نعيمة من قسنطينة التي فقدت والدها ووجدت نفسها مضطرة لإعالة إخوتها: “أعمل بالعاصمة منذ 5 سنوات وأحصل على راتب محترم، لكنني أعيل عائلة بأكملها ولهذا ألجأ إلى السكن الجماعي”. عدم استقرار أول ما تواجهه هؤلاء الفتيات وجودهن في وضع غير قانوني يجعلهن عرضة لكل الضغوط، ويفتح المجال لصاحبات البيوت اللواتي يقاسمن الفتيات عادة المنزل في غرفة فردية لممارسة كل أنواع السيطرة، مما يحول السكن إلى مكان تنعدم فيها أدنى شروط الراحة. توضح آمال قائلة: “نحن لا نملك أي عقد إيجار حتى وإن كنا ندفع ثمن 3 أشهر مسبقا، وهذا يجعلنا رهينة الطرد في أية لحظة”. من جهتها، تروي حسينة، أن معظم صاحبات المنازل يمارسن نفس الأساليب، ويعتمدن دائما على التهديد بالطرد، معلقة: “هن يعلمن أننا لا نملك الوقت للبحث عن سكن جماعي آخر بسبب عملنا أو دراستنا، ولهذا يتعمّدن تهديدنا بالطرد ويقمن بمنحنا مهلة أسبوع للمغادرة لوضعنا تحت الضغط”. وحول اللاإستقرار هذا تضيف نعيمة: “كنت أرحل من 4 إلى 5 مرات في السنة، وأتنقل من بيت لآخر لأجد في النهاية أنهن جميعا متشابهات”. وعن أسباب هذا التهديد والعلاقة المتوترة بين الفتيات وصاحبة المنزل تقول أمال: “صاحبات المنزل لا ينظرن إلينا على أساسا أننا صاحبات حق وندفع لهن ثمن الإيجار وإنما يتعاملن معنا على أساس أننا لاجئات وعبيد، وفي حال اعتراضنا على سوء المعاملة يتم تهديدنا بالطرد”. وتضيف: “الغريب أن العلاقة في الغالب بين الفتيات تكون جيدة أو على الأقل حسنة، لكن صاحبة البيت تفتعل المشاكل باستمرار”. ظروف غير إنسانية وصمت المضطر “الخبر” تسللت إلى بعض هذه البيوت، محاولة الوقوف عند ظروف عيش الفتيات، أول ما تفاجأنا به الفرق الكبير بين ما يتضمنه الإعلان وبين الواقع، فالبيوت التي يشار إلى أنها جيدة وتقع في حي راق، مؤثثة وبها مطبخ مجهز وحمام ساخن وغيرها، يتضح عند زيارتها العكس تماما. طالبات وموظفات ينمن على الأرض في غرف لا تحتوي حتى على خزانة أو طاولة أو كرسي. بالنسبة للمطبخ نفس الشيء فهو شبه مجهز، وعند الاستفسار عن هذا الوضع الذي لا يضمن أدنى مستويات الراحة مقابل 12 آلاف دينار شهريا في غرفة بها 3 فتيات، بدأت صاحبة إحدى البيوت بمحاولة إقناعنا أنها تعمل على تجهيز البيت شيئا فشيئا وأنها ستشتري أسرّة وخزانة الشهر المقبل وتوفر خدمة الأنترنت، في حين حاولت أخرى أن توضح لنا أننا سنحصل على راحة البال والسلم لأنها لا تسبب المشاكل مثل الأخريات وهذا الأهم. الموظفة أمال أكدت لنا: “كلهن يقلن هذا في البداية ولكن بمجرد أن نؤجر لا شيء يتغير أبدا”. حاولنا الاستماع أكثر إلى شروط صاحبات البيوت في خرجتنا الإستطلاعية، حيث تصر جميعهن على حسن السلوك، وتحددن الساعة الثامنة مساء كآخر موعد للدخول للبيت، وتؤكدن على ضرورة الاحتفاظ بنسخة من بطاقة التعريف الوطنية لكل فتاة، في المقابل ترفضن تسليم نسخة من بطاقة التعريف الخاصة بهن للفتيات أو حتى كشف اسمهن الكامل. صاحبات البيوت اللواتي التقينا بهن بصفتنا نبحث عن الإيجار، رفضن الإجابة على أسئلتنا فيما يتعلق بملكيتهن للبيوت أو قيامهن بتأجيرها، غير أن الجيران الذين تواصلنا معهم أكدوا لنا أن أغلب هذه البيوت ملك لجزائريين مغتربين يقومون بالسماح لصديقاتهم أو قريباتهم باستغلالها، فيقمن فيما بعد بتحويلها إلى سكن جماعي بحثا عن المال. جيران آخرون صرحوا أن بعض البيوت التي تم تحويلها إلى سكن جماعي وسط العاصمة، تعود ملكيتها لأشخاص نافذين في الدولة، وبقيت شاغرة قبل أن تقوم فتيات باستغلالها بهذا الشكل. نعيمة التي تسكن في هذا النوع من البيوت منذ 5 سنوات أكدت لنا: “كلهن ينتحلن شخصيات أخرى، منهن من تخبرنا أنها معلمة ثم نكتشف أنها تعمل في مؤسسة خاصة، ومنهن من تدعي أنها محامية ثم نكتشف غير ذلك، كلهن يخفين هويتهن”. أمال أيضا أكدت في تصريحها لنا: “الخواص عادة لا يؤجرون لفتاة عازبة، لقد حصلن على هذه البيوت من معارفهن بتالسلطة، إنهن لا يخفن أن نشتكي بهن بسبب الاستغلال لأنهن ببساطة محصنات جيدا”. من جهتها، تقول حسينة أن الشروط التي يتم الاتفاق عليها في البداية وهمية، ويقمن بوضع شروط أخرى مكانها بمجرد موافقة البنات على السكن، مثل أعمال القيام بتنظيف المنزل ومراقبة تفاصيل ما يقمن به، الحديث مع الجيران ممنوع، النوم عند الساعة العاشرة ليلا، مصرحة: “كل هذا ولا يحترمن أبدا وعودهن، في البدابة يؤكدن أن 3 فتيات في الغرفة ثم تفاجئين بإضافة اثنتين وتجدين نفسك في النهاية تدفعين 9 آلاف دينار للعيش مع 10 فتات في بيت من غرفتين بينما صاحبة البيت في غرفتها الفردية”. آمال من وهران، توضح بعد 10 سنوات كاملة في هذه السكنات: “في الإعلان يشترطن فتيات لا يدخنّ، وعندما نسكن نكتشف أن نصفهن يدخّن، ليس هذا فقط فصاحبة البيت قد تقرر رفع السعر في أي لحظة”. في حالات الاحتجاج على عدم الإلتزام بالشروط، تقابل الفتيات بعبارات السب والشتم والإهانة والتهديد بالطرد، وتؤكد نعيمة: “تلقيت إنذارين في العمل بسبب التغيّب من أجل البحث عن مسكن جديد في كل مرة، لهذا أصبحت لا أبالي وأتغاضى على كل شيء”. في المقابل تقول حسينة: “مؤسف أن نعمل طول اليوم وعندما نعود إلى البيت لا نجد السلام”. الفندق لشراء السلام هذه المعاناة، دفعت بنورة من باتنة، التي تحضر شهادة الماجستير إلى السكن في فندق متواضع وسط العاصمة. فبعدما تم رفض طلبها في الحصول على الإقامة الجامعية تنقلت لسنة كاملة رفقة إحدى صديقاتها بين بيوت السكن الجماعي، قبل أن تقرر الهروب من هذا العالم إلى الفندق، وتؤكد نورة: “اتفقت مع صاحب الفندق أن أدفع 500 دينار مقابل الليلة، أي أن الايجار يكلفني 15 ألف دينار شهريا”. وتضيف نورة: “صحيح أن الغرفة صغيرة والفندق متواضع، لكنني أشعر براحة البال وأستطيع التركيز على دراستي بعيدا عن الشتم أو الأوامر”. القانون غائب من جهتها، تقول نعيمة أنها حاولت جمع المال رفقة صديقتين لها، من أجل كراء بيت بشكل قانوني والحصول على عقد الإيجار، غير أنها اصطدمت برفض الخواص التأجير للبنات العازبات، ما يجعلها لا تملك أي خيار آخر غير السكن الجماعي للحفاظ على عملها. آمال تساءلت عن غياب دور أجهزة الرقابة عن هذه السكنات التي ينشر أصحابها الإعلانات في المواقع والجرائد بصفة علنية ويمارسون كل أشكال التسلّط ضد البنات، معبرة: “نحن لم نجد أي بديل لأن الجزائر لا توفر مثل باقي الدول إقامات للبنات في إطار قانوني، وبسعر معقول”. وأضافت ذات المتحدثة أن هذا الخيار، وتكفل الدولة بتنظيم هذا القطاع لا سيما أمام الإقبال المتزايد على العمل والدراسة بالعاصمة، أصبح ضرورة حتمية لإنهاء معاناة آلاف الفتيات، عن طريق بناء إقامات مخصصة للبنات تؤجر بطريقة قانونية. واعتبرت أن مثل هذا المشروع من شأنه توفير مناصب عمل جديدة لعمال النظافة والأمن، وحل أزمة السكن الجماعي والكراء التي تواجه الموظفات والطالبات بالعاصمة.