طلبت مني الجامعة الخليجية التي كنت أشتغل فيها، قبل عقد من الزمن، الإشراف على تنظيم ندوات علمية. لقد كانت تؤمن بأن الجامعة تتفاعل مع الأحداث، وتمارس دورها الفكري من أجل تنوير المجتمع. فشرعت في عقد أول ندوة اخترت لها العنوان التالي: الإعلام والحرب. وقد فضل أستاذان من جنسية عربية واحدة أن يشاركاني في تنشيطها. فمازحتهما بالقول: إن الكرم العربي يقتضى أن أبدأ الندوة بمداخلتي لأنني أشكل الأقلية. فضحكا، وافتتحتها بمداخلة حاولت فيها أن أجيب على السؤال التالي: ماذا فعلت الحروب بوسائل الإعلام؟ وهو سؤال مخالف لما كان سائدا في تلك السنوات، حيث كان الجميع مهتما بالجانب الآخر والمطروق من السؤال، وهو ماذا فعلت وسائل الإعلام بالحرب؟ انتهت الندوة بنقاش ثري شارك فيه أساتذة الجامعة وطلبتها. وفي اليوم الموالي جاءني المكلف بالإعلام في الجامعة معتذرا، فأخبرني أن صحيفة واحدة غطت الندوة المذكورة، واعتقد أن ما كتبته مخجل حقا وغير أخلاقي لأنها لم تذكر اسمي قط، والأدهى أنها نسبت مضمون مداخلتي للزميلين اللذين كانا معي في المنصة! واستطرد قائلا: لقد فعلت ما فعلته لأن الصحفي الذي غطى الندوة يحمل جنسية الأستاذين اللذين شاركاك تنشيطها. فشكرته على الاعتذار ورددت على مسمعه ما قاله الكاتب والمعالج النفسي الأمريكي ريتشارد كارلسون: لا تهتم بصغائر الأمور، فكل الأمور صغائر. لقد شعرت أن برودة ردي صدمته إلى درجة اعتقد أنني فقدت الإحساس بالأذى، وأن حاجتي ماسة إلى زيارة المعالج النفسي المذكور. فضحكت قائلا: لو أن عيادات الطب النفسي فتحت أبوابها لأمثال الصحفي الذي غطى الندوة، والذي أصمّنا حديثه المجتر عن القيم وأخلاقيات الصحافة والصدق والموضوعية، لما تركوا مكانا فيها لغيرهم. لم يكن هذا المكلف بالإعلام يدرى أن برودتي اكتسبتها من المعاملة التي عوملت بها في بلدي. وكانت أقسى وأمر. حدث ذلك في شهر جويلية 1989 عندما عرض المركز العربي للدراسات الإعلامية وصحيفة جزائرية على معهد علوم الإعلام والاتصال الاشتراك في المؤتمر السادس لعلوم الإعلام والاتصال في الوطن العربي، فدعا المعهد المذكور أساتذته للمشاركة في هذا المؤتمر، ولم يلب الدعوة سوى أستاذان كنت أحدهما. قدمت مداخلتي إلى المنظمين مطبوعة، بينما لم يقدم جل المؤتمرين مداخلاتهم مكتوبة. ولكن، ويا للمفاجأة، وجدت مداخلتي مهملة في زاوية من زوايا قاعة المؤتمر! انطلقت أشغال المؤتمر وكانت تجرى دون جدول أعمال، فاستفسرت عن موعد مداخلتي فقيل لي إنها برمجت بعد الجلسة الافتتاحية، ثم أخبرت أنها رحلت إلى الفترة المسائية. وانتهى اليوم الأول من المؤتمر لأدرك أنها أجلت إلى يوم غد صباح. وانصرف اليوم الثاني دون أن يرى المنظمون ضرورة إخطاري بالاستغناء عن مداخلتي. وظل الإخوة المشرفون على المؤتمر لا يكفون، طيلة اليومين، عن الإشادة والإطراء وحتى الانبهار بكل متدخل أجنبي، خاصة من الجنسية التي محت اسمي من التغطية الإعلامية المذكورة، والذين شكلوا طابورا من المتدخلين. لقد اعتقد هؤلاء الإخوة أن المتدخل يكون بالضرورة الأحسن، بل الأجود إن لم يكن جزائريا. والخلاصة أنني خجلت من نفسي أو بالأحرى حاولت أن أحترمها ولم أنتقل إلى قاعة المؤتمر في اليوم الثالث والأخير، وهكذا لم يشارك في هذا “العرس الكبير” سوى أستاذ جزائري وحيد. مرت السنوات وحاولت أن أجد عذرا لهذا السلوك الجزائري، وقلت إن الجماعة التي نظمت المؤتمر ربما تحاشت أن تواجهني بالقول إن مداخلتي لم تكن في المستوى المطلوب، لكنني وجدته عذرا غير مقبول أصلا لأن المداخلات لم تخضع لتحكيم أكاديمي ككل المؤتمرات العلمية. وبعضها لم يتجاوز حديث المقهى! وأن مداخلتي نشرت، بعد المؤتمر، في مجلة علمية محكمة وفي بلد الصحفي الذي أقصى اسمى من التغطية الإعلامية المذكورة. وعاتبت نفسي قائلا ربما عثر الساهرون على تنظيم المؤتمر على مقطع في مداخلتي يهدد أمن البلاد والعباد فاستغنوا عنها درءا للمشاكل، فاستبعدت الفكرة لأن موضوع مداخلتي تمحور حول مؤشرات البحث العلمي الإعلامي في الجزائر. قد يشعر بعضكم بالندم على صرف جزء من وقته الثمين في قراءة نص مفعم بالذاتية وربما النرجسية، لكن أرجو أن تضعوا أي اسم بدل اسمى لأن أن الكثير منكم كان شاهدا على تصاغر الجزائري أمام الأجنبي، وحتى تماديه في الإساءة إلى أخيه الجزائري واهما أنه سيكبر في عين الأجنبي بسلوكه هذا. قد يجزع بعضكم من هذا الحديث لكنني مقتنع بأن بعض الكلمات كالدواء كلما كانت مُرّة نفعت أكثر. وقد يرى بعضكم الآخر أن صغائر الأمور تكبر عندما يتصاغر الجزائري أمام الأجنبي. www.nlayadi.com