إنّ المرويات تتعارض في ظاهر الأمر، وهنا يدخل علماء الفقه والأثر للتّنسيق والتّرجيح، وقد يصحّ السّند ولا يصحّ المتن، وقد يصحّان جميعًا ويقع الخلاف في المعنى المراد، وهذا باب واسع جدًّا.. ومنه نشأ ما يسمّى بمدرسة الأثر ومدرسة الرأي، والأولون أقرب إلى الفقه الظاهري، وإن خالفوه كثيرًا.. والآخرون أوسع دائرة وأبصر بالحكمة والغاية، وكلاهما إلى خير إن شاء الله! وعندما يخالف أثر صحيح ما هو أصحّ منه يسمَّى شاذًا ويرفض، وعندما يخالف الضّعيف الصّحيح يسمّى متروكًا أو منكرًا، وقد رأيتُ ناسًا يبنون كثيرًا من المسالك على هذه المتروكات والمناكر باسم السُّنّة، والسُّنّة مظلومة مع هؤلاء الجهّال.. ضرورة العناية بالقرآن الكريم ولستُ أقرّر جديدًا في هذا الميدان، والذي أراني مضطرًا إلى التّنبيه إليه هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه، فإنّ ناسًا أدمنوا النّظر في كتب الحديث واتّخذوا القرآن مهجورًا، فنمت أفكارهم معوجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول، وتحمّسوا حيث لا مكان للحماس، وبردوا حيث تجب الثّورة! نعم من هؤلاء مَن ظنّ الأفغانيين من أتباع أبي حنيفة لا يقلّون شرًّا عن الشيوعيين أتباع كارل ماركس، لماذا؟ لأنّهم وراء إمامهم لا يقرؤون فاتحة الكتاب! والذهول عن المعاني الأولية والثانوية الّتي نضح بها الوحي المبارك لا يتمّ معه فقه ولا يصحّ دين.. ذكر أبو داود حديثًا واهيًا جاء فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “لا تركب البحر إلاّ حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله، فإن تحت البحر نارًا، وتحت النّار بحرًا” هذا الحديث الضّعيف المردود خُدع به الإمام الخطابي، وعلّل النّهي عن ركوب بأن الآفة تسرع إلى راكبه ولا يؤمن هلاكه في غالب الأمر! والكلام كلّه باطل، فقد قال المحقّقون: لا بأس بالتجارة في البحر، وما ذكره الله تعالى في القرآن إلاّ بحقّ، قال عزّ وجلّ: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فاطر:12. إنّ الغفلة عن القرآن الكريم والقصور في إدراك معانيه القريبة أو الدّقيقة عاهة نفسية وعقلية لا يداويها إدمان القراءة في كتب السّنّة، فإن السّنّة تجيء بعد القرآن، وحُسن فقهها يجيء من حُسن الفقه في الكتاب نفسه، وقد ذكر ابن كثير أنّ الإمام الشّافعي قال “كلّ ما حكم به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم فهو ممّا فهمه من القرآن” فكيف يفقه الفرع مَن جهل الأصل؟ إنّ الوعي بمعاني القرآن وأهدافه يعطي الإطار العام للرّسالة الإسلامية، ويُبيّن الأهم فالمهم من التعاليم، ويعين على تثبيت السنن في مواضعها الصّحيحة..