نشط الشاعر التونسي المنصف المزغني، أمس الأول، ندوة في إطار تظاهرة “الربيع الثقافي” للحديث عن تجربته الشعرية التي بدأها منذ عام 1954. وعرف اللقاء الذي احتضنته “خيمة الربيع الثقافي” برياض الفتح حضورا معتبرا للمثقفين والشعراء الذين تحدوا أجواء البرد والمطر من أجل الاستمتاع بالبرنامج الذي تخللته قراءات شعرية من تقديم المزغني، أشبه بالعرض الموسيقي. تغنى المزغني التونسي بقصائده فأبهر الجمهور، كما فعل من قبله الشاعر المصري هشام الجخ الذي أقلق بطريقته في الإلقاء شعراء الجزائر، وقد استدعى فن مسرحة الشعر وهو يتحدث عن العروبة، ليتجاوز حدود النص و«امتطى الركح” وسط جماهير غفيرة، وهذا ما فهمه الشاعر الإيطالي كلاوديو بوستاني الذي جاء إلى الجزائر في إطار “موعد مع الشعر”، مقتحما الركح بأدائه وتفاعله مع القصيدة التي ألقاها باللغة الإيطالية، ليكسر بذلك حواجز اللغة وأوصل بالمعنى للمتلقي رغم تقاسيم اللغة الإيطالية الغريبة على الجمهور الجزائري. وللمرة الثالثة، أبدى الوزير والشاعر عز الدين ميهوبي إعجابه بطريقة إلقاء “مسرحة القصيدة”. ودعا المنصف المزغني للقاء جماهير الولاية الداخلية في جولة كالتي منحت للشاعر المصري هشام الجخ، حيث سينطلق في جولته من بوابة مدينة الجسور المعلقة عاصمة الثقافة العربية قسنطينة، ليطرح بذلك سؤالا جوهريا حول واقع القصيدة “هل ما يريده الشاعر قصائد تلقى على كراسي العشرات من المثقفين فقط أم أمام الجماهير العريضة؟”. يتميز المزغني بروح الدعابة و”خفة الدم” والتصالح مع الذات، لهذا قال: “أنا من فصيلة ضاحكة وسأموت كذلك”، فالقصيدة بالنسبة له أداء على الركح. وقد اختار أن يتغنى بصوته ويعزف صدر البيت وعجزه ويتوقف ملحنا القوافي ويرفع العنان عاليا للأداء بعيدا عن شحوب الإلقاء، وأن يمنح القصيدة أجنحة تصل إلى مشاعر وذوق المتلقي ولا تتوقف عند القراءة الجافة. بدأت حكاية المنصف المزغني مع كتابة الشعر عبر حكاية “عياش” أول قصيدة كتبها، ولدت من رحم الواقع التونسي كتبها عام 1977، وهي قصيدة درامية تحكي تجربة شخصية وسياسية تونسية، بعد صدام دموي بين الحكومة والنقابات فيما يعرف في تونس ب«أحداث 26 جانفي 1978”. استفاد الشاعر التونسي كثيرا من موهبته في الأداء، فقد كان حلمه الأول أن يكون ممثلا مسرحيا أو سينمائيا، لكن عجلة القدر دارت في اتجاه آخر واستقرت أولا في التعليم الابتدائي، حيث اشتغل مدرسا وصحفيا وأسس لفضاءات ونوادي القصة والشعر في مدن تونس التي أحبته لتقديسه للابتسامة وخفة الدم، وقد سعى في قصيدة لكي “يقترب من نفسه”، وهو ما جعل منه معروفا في تونس، حتى قبل أن يصدر أول ديوان شعري له، فقد عرف المزغني مؤديا يدافع عن الأمل والسخرية، فالنسبة له كل شيء “يدفعنا نحو الاستسلام للابتسامة حتى تلك القصائد الحزينة، وتلك الأبيات المستسلمة للهجاء، وهو ما جسده في دواوينه الشعرية “عناقيد الفرح الخاوي” 1981، “عياش” 1982، “قوس الرياح” 1989، “حنظلة العلي” 1989، “حبات” 1992، “حصان الريح وعصفورة الحديد” مسرحية شعرية للأطفال. كثير من الشعراء الجزائريين يعانون اليوم من “تسطيح الإلقاء” وجفاء الأداء، ولازالوا يقرأون قصائدهم بطريقة رتيبة وبشكل وصفه المزغني ب«البائس”. لقد تطور مفهوم الشعر لدى المتلقي، وبات على “الشعر العربي الفصيح أن يعي ذلك” كما يقول المنصف المزغني إن”هذه الأزمة هي عقدة الفصيح أما الشعر الشعبي فهو اليوم في حالة تصالح أكبر مع الجمهور”. رسالة المزغني من فضاء “الربيع العربي” أنه يجب أن يكون للقاء روح، وعلى الشعراء المضي قدما في تجديد طريقة تعاملهم مع خشبة المسرح، والحركات وخامات الصوت، قبل أن يواجهوا “شبح التبدد”، فمصير الأمور التجدد كل من يرفض “يتبدد”، فكم من ديوان شعر لم يبع سوى إعداد تحصى على أصابع اليد، وكم من شاعر أحرق دواوينه أو رمى بها في غياهب الجب بعدما وجد نفسه وحيدا بلا جمهور. يحج الجمهور العربي اليوم إلى الإلقاء، ويرفض الأمسيات الشعرية التي تعتمد على المنابر وتتعامل مع القصيدة كخطاب سياسي بلا روح، وكما يبدو سيتوج هذا ببسط مفاهيم جديدة، وستتحقق نداءات المنصف المزغني ومن قبله هشام الجح التي تدعو إلى أن لا يكتفي الشاعر بقراءة قصائده بشكل كلاسيكي جاف من الأداء والتفاعل، فأسباب ودوافع هجرة الجمهور للأمسيات الشعرية هي طريقة الإلقاء، كما يتساءل المزغني: “لماذا نريد من المواطن أن يترك انشغالاته وأموره العائلية من أجل أن يجلس مستمعا لشاعر يقرأ شعره من كتاب؟”. وأضاف: “لو كنت قارئا لاشتريت الديوان وقرأته في البيت، فما يستدعي التنقل إلى الأمسية الشعرية هو البحث عن طريقة الإلقاء والأداء التي لم يستطع القارئ أن يصل إليها لوحده”.