تعيدنا قضية “الخبر” وصراعها مع وزارة الاتصال اليوم، وما يلتصق بها من ملابسات وقراءات، إلى طرح الأسئلة الكبرى حول خيارات الجزائر السياسية والاقتصادية، منذ أحداث أكتوبر 1988 وإقرار التعددية الحزبية وحرية التعبير وتأسيس الصحافة الخاصة والمستقلة.. فهل نحن بصدد إتمام عملية التراجع عن هذه الخيارات؟ وتأتي هذه الأسئلة الكبرى على بعد سنتين من انتخابات رئاسية، يرى الكثيرون أنها ستكون مصيرية في تاريخ الجزائر على كل المستويات. على المستوى الدولي بسبب ما تعرفه الساحة الدولية من تحولات كبرى ومحاولة احتواء الجزائر كورقة مهمة في الصراعات الدولية، بعد سقوط أوراق دولية كثيرة، كانت ترتكز عليها القوى الكبرى في العالم. وعلى المستوى الداخلي خاصة مع الأزمة البترولية الخانقة التي وضعت النظام في موقف حرج، وكشفت عيوبه، وأكدت أن شراء السلم الاجتماعي لن يكون متاحا مستقبلا، ومصيرية أيضا للنظام القائم الذي إما سيعيد رسم خريطة جديدة للحكم في الجزائر بأبعادها الخارجية وعمقها الداخلي سياسيا واقتصاديا وحتى فكريا وثقافيا، أو أنها ستحاول تكريس ما هو قائم رغم كل الاختلالات والفشل الذي أصابه، يعيقه أكثر مرض الرئيس الذي أصبح أكثر وضوحا، وعملية إخفائه ستكون شبه مستحيلة خاصة مع الخرجات الأخيرة للوزير الأول الفرنسي. ويتطلب تكريس الوضع القائم الذي بالضرورة التحضير له ووضع كل شيء في الحسبان من الآن عن طريق إزاحة كل معوقات والترتيب لما هو آت، ومنها ضمان صوت الإعلام أو تمييعه أو شراؤه، فالقاعدة تقول من امتلك المعلومة امتلك السلطة، وقد استطاع النظام القائم والسلطة ومن يدور في فلكها أن يسيطر على الأمر عن طريق خلق توافق وتوازن لتجنيب الجزائر الصدامات الداخلية، لكن الأمر لن يكون متاحا مستقبلا، وربما يومية “الخبر” تدفع ثمن خيار النظام الحفاظ مستقبلا على الوضع القائم بفرض سلطة الأمر الواقع. فيومية “الخبر” التي لم ترضخ لكل محاولات تكميمها، ولا تغيير خطها الافتتاحي، ستكون شوكة في حلق النظام الذي فقد دعامتين أساسيتين للحفاظ على الوضع، وهما “الإدارة” أو جهاز “تسيير الانتخابات”، و”المال العام”، الذي شحّ بمجرد انهيار أسعار البترول، وبالتالي فعملية شراء السلم الاجتماعي ستكون شبه مستحيلة، بما أن أغلب الخبراء يؤكدون على استمرار انهيار أسعار البترول، أو على الأقل بقاؤه في المستويات الحالية، ومع الأعباء الكبيرة للدولة، فأي تبذير أو صرف للمال في غير محله سيزيد من متاعب الدولة والنظام، وربما هذا ما يفسر توجه بعض وجوه النظام للزوايا من أجل التزكية قد تكون إحدى الطرق التي يعتمد عليها مستقبلا أيضا. وبما أن “الخبر” الجريدة التي “تحسب على المعارضة”، أو يصنفها النظام في إطار الصحافة المعارضة، رغم أنه في أبجديات الإعلام لا توجد معارضة في الصحافة، إلا الصحافة الحزبية، والتي لا نجد لها إلا نموذجا واحدا، فإن النظام يرى أن كل من ينتقده أو ينقل الحقيقة عنه فهو بالضرورة معارض، وبالتالي سيتم التضحية به مهما كانت أهميته داخل المجتمع، ومهما كان الدور الذي يلعبه “قطاع الصحافة ومهنة الصحافة من أثر فعال في بناء المجتمعات وترقية الذوق، ونشر المعرفة وفتح آفاق استشرافية أمام الرأي العام”، والذي ورد في رسالة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، أول أمس، بمناسبة اليوم العالمي للصحافة، وبالتالي فإن خيار حرية التعبير والصحافة المستقلة سيتم التراجع عنه، كما تم التراجع عن خيارات أخرى أساسية، ومهمة بالنسبة للجزائر في المرحلة الراهنة، والتغني بالحرية التي وردت في رسائل عديدة لرئيس الجمهورية تشبه تماما خطابه التاريخي بولاية سطيف، حين تحدث عن إصلاحات عميقة في الدستور، وحين قال “طاب جنانو” والحديث عن تسليم المشعل، التي بقيت مجرد خطابات. وفي الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول بتدارك الوضع فيما يخص وضع حقوق الإنسان والحريات فيها، ومراجعة قوانين كانت تعتبر من المسلمات، ودول أخرى توجهت لإصلاحات اقتصادية عميقة تضمن على المدى المتوسط والبعيد التحرر من التبعية للمحروقات، كالبحث عن أسواق جديدة خارج أرضها وتشجيع الاستثمار عبر قوانين مغرية ومسهلة، واستحداث قطاعات جديدة للإنتاج وخلق الثروة، وتوفير فرص عمل جديدة، فإن التوجه في الجزائر هو نحو مزيد من الخنق والتضييق على كل الأصعدة، وإلا كيف نفسر أنه بعد 25 سنة من اعتماد اقتصاد السوق، مازلنا نتحدث عن الامتلاك والاحتكار ونعيق كل دخول للرأس المال الجزائري، فما بالك برأس المال الأجنبي؟ إن ما يحدث ل”الخبر” ورجل الأعمال، إسعد ربراب، وعرقلة استثماره في “الخبر”، سيدفع العديد من المستثمرين لمراجعة كل حساباتهم فيما يخص الاستثمار في الجزائر، على خلفية عدم احترام القوانين أو تكييفها وفق ما يساعد ويخدم حسابات النظام. وليس هذا فقط، فالنظام الذي يعلن بأنه يقوم بما يجب للحفاظ على مناصب الشغل، بل يحاول خلق مناصب جديدة، يخنق قطاع السمعي البصري الذي يعتبر لوحده قطاعا جديدا وكبيرا، يمكنه أن يخلق المئات من الوظائف الجديدة للمتخرجين وللمهن الجديدة. فأي إستراتيجية يعتمد النظام عليها إن لم تكن إستراتيجية “التهديم الذاتي” دون التعمق في أبعاد قراراته وما يقدم عليه. التعرض لعملية شراء أسهم “الخبر” مع محاولات خنقها بمنع الإشهار عنها، مع ما لها من وزن وتواجد داخل الجزائر العميقة، والمصداقية والعمق اللذان تتمتع بهما في المجتمع الجزائري، بل حتى على المستوى الدولي، هو التعرض في الواقع لخيارات الجزائر الكبرى (بعد 26 سنة من إقرارها)، فيما يخص الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان أيضا، ومناخ الاستثمار الذي لا يحتاج إلى مزيد من التلويث.