يرى رئيس مركز المصطفى للدراسات الاستراتيجية الإيراني الدكتور محمد علي ميرزائي، أن التقريب بين المذاهب ليس هو الحل للفرقة القائمة، لأن المذاهبية الإسلامية مشكلة حقيقية ينبغي حلها من الجذر. وأشار في حوار مع “الخبر” إلى أن المشكلة القومية والإسلامية في المنطقة، والنزاع التقليدي بينهما منذ ما يقارب قرن، قد تحوّل إلى لقاء استراتيجي في مواجهة إسرائيل، فذابت المسافات بينهما بشكل كبير، ما أفقد الأطراف اللاعبة إمكانية اللعب بورقة القومية والإسلامية، فشهد الصراع تطوراً خطيراً من الصراع القومي الإسلامي إلى الصراع الشيعي والسني. هناك من يرى أن الصراع الدائر حاليًا في منطقة الشرق الأوسط في الجوهر صراع إرادات ومسعى هيمنة وسيطرة، وصراع وجود بين المعسكر الإيراني والمعسكر الخليجي، خصوصًا في ظل التحالف العربي السني. ما رأيك؟ الثورة الإسلامية الإيرانية قبل ما يقارب 4 عقود كانت حدثاً استراتيجياً هاماً، لعل التفاسير الاستراتيجية للمنطقة والعالم الإسلامي اليوم دون فهم صحيح لهذا الزلزال الجيوسياسي والاستراتيجي ستكون تفاسير منقوصة. لا شك أن الثورة الإيرانية كانت عكس التيار السائد السياسي العالمي، وهو الحدث الأخطر على منطق المصالح الاستراتيجية الغربية والإسرائيلية في المنطقة من ناحية، والحدث الأكثر أهمية لدى الحكومات العربية والإسلامية من ناحية ثانية، لأن الثورة الخمينية أتت واضحة الفلسفات والمقاصد والشعارات. ثورة بنيت على السيادة الوطنية ورفض الاستعمار والاستحمار الأجنبي الأمريكي والأوروبي، وإنقاذ الشخصية الإسلامية الإيرانية من الخضوع والذل، كما أنها أتت لتقديم صورة مختلفة عن الدين ونوعية تفاعله مع القضايا الاستراتيجية والسياسية تختلف عن العلمانيات الغربية أو الشرقية، وكذلك التوجهات الرجعية الإسلامية كما سماها الإمام الخميني. وعليه فإن الثورة الإسلامية في إيران كانت واضحة أكثر من اللازم وأطروحاتها مباشرة لا لبس فيها في وجه المعادلات الاستراتيجية الغربية أو الإقليمية التي كانت مقبلة على التخلي عن كل شيء لصالح المشروع الإسرائيلي في المنطقة تحت مسميات كثيرة. الثورة أتت للقضاء على الشاهنشاهية الشيعية وضربها من الأساس في الداخل، ومواجهة المخططات الاستعمارية الخارجية في إيران والمنطقة، وهذه النهضة السياسية الإيرانية كانت ضمن رؤية فلسفية دينية مختلفة عن التوجهات الدينية التاريخية الشيعية أو السنية. فلم تكن الثورة تهديداً مذهبياً على الإطلاق وبأي نحو من الأنحاء. الحكم السياسي في إيران جارة العالم العربي كان حكماً ملكياً، وتفعيل الدور الشعبي لتقرير المصير في البلاد وتنشيط دور المرأة في المجتمع وإعادة بناء العلاقات الدولية على أسس استراتيجية مختلفة، والدعوة إلى أحلاف جديدة ومعادلات استراتجية جديدة، كان من شأن ذلك كله أن يحدث مناخاً سياسيا إقليميا ساخناً، لأن شعارات ومخططات كهذه اشتبكت مباشرة مع الوضع السياسي الملكي غير الديمقراطي في المنطقة من ناحية، واحتكت بمشاريع الإسرائيليين للمنطقة وفلسطين من ناحية ثانية، واقتحمت مخيمات الاتحاد السوفيتي والعالم الغربي ومصالحها الميتا استراتيجية من ناحية أخرى، وكلها جبهات عالمية فُتحت دفعة واحدة. لقد أعلنت الثورة الجديدة أنها تتحرك لاستعادة الحق الإسلامي والإنساني والعربي الفلسطيني، وأنها مع قضايا المستضعفين في كل العالم، وأنها تدعو إلى تفعيل دور الشعوب المسلمة واستعادة الكرامة والنشاط في مزاولة الأدوار الاجتماعية، وتقرير المصير ورفض الدكتاتورية والاستعمار، وهي شعارات وعناوين شديدة الخطورة ولا تزال إلى اليوم. لأن الحالة السائدة في المنطقة والأوضاع القائمة في الغرب والشرق حينئذ لم تكن تطيقها وتحتلمها، فبدأت المؤامرات والمخططات الغربية والشرقية والعربية لخلق العراقيل وزرع القنابل الثقيلة أمام الثورة الفتية، سعياً لإسقاطها من الأساس، فاندلعت الحرب الإيرانيةالعراقية الكونية بدعم مباشر من أكثر من 50 دولة للطرف العراقي، وبدأت محاصرة الثورة الخمينية شرقاً وغرباً ومن المحيط العربي طمعاً في إيقافها والقضاء عليها في المهد. سقط نتيجة الحرب التي استمرت 8 سنوات أكثر من نصف مليون قتيل، ودمار هائل في كل مكان، وكل ذلك تحت عناوين قومية بغيضة لشحن النفوس وتعبئة الأطراف المحلية والإقليمية في قتال الثورة الإسلامية الجديدة. تحولت دماء الأبرياء إلى حصن وأمان لبعض الأنظمة خوفاً وهمياً من الثورة الجديدة، رغم أنها لم تكن ترفع شعاراً في وجه هذه الدول، ومواجهة إسرائيل كانت البؤرة الأساسية في خارطة سياساتها الدولية، ولكن المنازعات الإيرانية الإقليمية استمرت بوتيرة متصاعدة وفي أشكال وأساليب متنوعة مختلفة حسب الظروف. خرجت إيران الثورية منتصرة رغم الأوجاع والجروح والدمار الهائل، ولكن المعنويات لم تسقط، والمؤامرات لم تنجح في إيقاف زخمها وتجميد حركتها. ولكن الحصار والعقوبات استمرت، واستمرت المخططات العالمية بأدوات محلية. وفي هذه الفترة أعلنت الثورة الإسلامية من صوتها الداعي إلى الوحدة والائتلاف والتضامن العربي والإسلامي في وجه المخططات التي كانت من جهات معلومة من خارج العالم العربي والإسلامي تستهدف المنطقة. أقيمت مؤتمرات سنوية في طهران شارك فيها قادة الفكر والثقافة من جميع المذاهب في جميع السنوات التي مرت عليها لتأكيد المشاريع الوحدوية، ومنعاً للسقوط في ورطة الفرقة والتناحر والطائفية والمذهبية القاتلة. إلى أن حصلت انفجارات 11 سبتمبر الإرهابية في قلب العاصمة الاقتصادية العالمية والأميركية، فاستُغلت القضية المشبوهة أصلا لزحف الجيوش الأميركية والغربية والعربية إلى العراقوأفغانستان، فتدمير البلدين واحتلالهما تحت ذرائع الإرهاب والقنبلة غير التقليدية التي اتضح فيما بعد أنها لم تكن أكثر من أكذوبة لشن الحروب الصليبية على المنطقة، وإنقاذ إسرائيل من مآزقها وحصار إيران وشن الحرب عليها والقضاء على ثورتها بعدما لم تنجح الحروب السابقة في إنهائها. ورغم أن كثيرا من دول الخليج ساهمت مباشرة في دعم الحرب الأميركية على العراق وعلى الكويت وعلى أفغانستان، فإن إيران بقيت في الحياد ولم تورط نفسها للدفاع عن صدام أو للمشاركة في الحرب مباشرة كما فعلت بعض الدول العربية. فشلت الحرب الأميركية على العراقوأفغانستان، فتحول العراقوأفغانستان إلى الفوضى التي استغلتها الحركات الإرهابية فيما بعد وحولتها إلى مركز الحركات الإرهابية عالمياً! بعد ذلك وفي العام 2006 انتصرت المقاومة في لبنان ضد حرب إسرائيل الشاملة على لبنان، وكذلك فشلت إسرائيل في حروب أخرى في الداخل مع الفلسطينيين، ما دفع القوى العالمية والإقليمية لتنتفض من جديد لفك العلاقة بين إيران والمقاومة من جهة، وضرب النظام السوري المباشر في دعمها من جهة ثانية، وإزالة كل التهديدات الحقيقية ضد إسرائيل من ناحية ثالثة، وتأمين الحكومات الدكتاتورية التي لم تكن تشعر بالارتياح من التجربة الإسلامية الإيرانية من جهة رابعة، فتوحدت الكلمة على خلط أوراق المنطقة من جديد، وبخاصة أن ما سمي بالربيع العربي تم استغلاله بطريقة مدهشة من قبل الغرب وإسرائيل وبعض الدول الإقليمية، في ضوء فشل الحركات الإسلامية السياسية في إدارة الحالة لضعفها الفكري وقلة خبرتها وفقدان الحكمة السياسية اللازمة ووقوعها في أكثر من فخّ في المنطقة والعالم! ما هدف داعش؟ في المنطقة وكيف تقرءون الحالة الراهنة في سوريا؟ انطلقت حركة عالمية محمية ومدعومة باسم داعش في المنطقة بمنتهى التدقيق والتخطيط، ومع ضمانات البقاء حتى إشعار آخر والأهداف الأساسية منها كانت: 1. فكّ الارتباط بين إيران والمقاومة الفلسطينية في داخل فلسطين وخارجها. 2. ضرب المقاومة في لبنانوفلسطينوسوريا 3. إفشال المطالبات الواقعية للشعوب العربية وتحويلها إلى مطالبات تتصل بالسلطة فقط من قبل بعض الحركات الإسلامية السياسية. 4. إبعاد الحروب عن الجيوش الغربية، من خلال إثارتها في عمق المنطقة وبين أبناء الأمة ومذاهبها قدر الإمكان. 5. إشعال نيران الفتن المذهبية والطائفية والقومية كلها في آن واحد وفي حرب لا نهاية لها. 6. ضرب اقتصاديات المنطقة من خلال إنهاكها وإرهاقها بشراء السلاح، وتجميد مشاريع الإعمار والتنمية، وإرباك العلاقات الطبيعية الاقتصادية بين البلدان العربية والإسلامية وبينها وبين العالم. 7. الحيلولة دون تحقق أي تحالفات استراتيجية بين الدول العربية والإسلامية في المنطقة والعالم. 8. إنجاح المخطط العالمي المسمى بإسلاموفوبيا وصناعة صور نمطية عن القتل والذبح والإرهاب القذر والبشع لتخريب صورة النبي الأعظم والإسلام عموماً، ومنع زحف المجتمعات الغربية باتجاه الإسلام والتجارب الناجحة المنادية باسمه. 9. إفشال الأدوار الاستراتيجية للبلدان ذات الثقل الاستراتيجي مثل مصر وسورياوالعراق، وإلهائها بمشكلة الإرهاب في عمق مجتمعاتها وتخريب السلم الأهلي فيها وتسخين العلاقة بين مكونات هذه الشعوب. 10. إنعاش الاقتصاديات الغربية، من خلال بيع الأسلحة وإعادة إعمار البلدان المدمرة في اليمن وسورياوالعراق.. 11. إنقاذ إسرائيل من خطر الانهيار النهائي والحاسم على يد المقاومات العربية والإسلامية. 12. تنفيذ مخطط جديد في إعادة رسم الحدود بين مكونات العالم العربي والإسلامي في المنطقة، بشكل أسوء وأخطر من سايكس بيكو، تحكمها المعارك الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية، ويجب أن تستمر الحروب هذه لقرون وقرون دون إمكانية إخمادها بأي حال، مع رسم معالم جديدة للعلاقات بينها. هذه بعض الأهداف الأساسية من وراء ما نراه اليوم في سوريا واليمن ولبنانوالعراق وليبيا وغيرها من الدول. قراءتي ومقاربتي للحالة الراهنة في سوريا لا تنفصل عن قراءتي للخارطة الإقليمية والعالمية أبدا. وعليه فإن اقتصار التفسير الاستراتيجي في فهم مجريات المنطقة على مسألة الصراع السني والشيعي هو تقليص من مساحة الإشكالية، واختزال المعادلة المتعددة الأبعاد والجوانب، وقصور في فهم القواعد الحقيقية للاشتباك بين الأطراف كلها. نعرف جميعاً أن المشكلة القومية والإسلامية في المنطقة والنزاع التقليدي بينهما منذ ما يقارب القرن قد تحول إلى لقاء استراتيجي في مواجهة إسرائيل، فالتقت كبار التوجهات القومية العربية، وكذلك التركية، مع كبار التوجهات الإسلامية في المؤتمر القومي الإسلامي في لبنان وغيره أكثر من مرة، وذابت المسافات بينهما بشكل كبير، ما أفقد الأطراف اللاعبة إمكانية استغلال ورقة القومية والإسلامية، فشهد الصراع تطوراً خطيراً من الصراع القومي الإسلامي إلى الصراع الشيعي والسني. هكذا أريد للمعركة أن تكون وهكذا خُطط للعلاقات أن تنفجر لتحقيق الأهداف الأنفة الذكر. الحوار القائم منذ سنوات لتقريب المذاهب لم يساهم في تبديد التباعد والخصام وسوء الفهم. إلام يرجع ذلك؟ وهل يؤثر العامل السياسي على ترسيخ التباعد بين السنة والشيعة؟ مهما تكن النتائج فإن الإنسان لا يمكن أن يشك في النوايا الصادقة والحسنة للقائمين على مشاريع التقريب والتضامن الإسلامي بين المذاهب، ولكنني هنا أحب أن أضيف أمراً لعله جديد نوعاً ما، وفي نفس الوقت قد يصدم البعض. في تصوري التقريب بين المذاهب ليس هو الحل للفرقة القائمة، لأن المذاهب الإسلامية مشكلة حقيقية ينبغي حلها من الجذر بدلا من السعي لجمع أطراف الاشكالية. نحن أمة المذاهب والتيارات والتصنيفات. علينا أن نفكر بصناعة مظلة ومرجعية مشتركة من القرآن الكريم والسنة القطعية المحمدية، مما لا يمكن أن يختلف عليه اثنان من المسلمين، ومن ثم ننطلق باتجاه المذاهب. من قَبِل بهذه الأسس العامة الشاملة الكلية فهو مسلم وأخونا، بغض النظر عن المذهب الفقهي أو الكلامي الذي ينتمي إليه، وهي مبادئ عامة لا يمكن المس بها، لأنها من يقينيات الإسلام، وهي ليست المنطقة المشتركة بين المذاهب، ولكنها المنطقة الحاكمة المرجعية العليا، وتشرف عليها وتحتكم المذاهب إليها لو اقتضت الحاجة. وإن كان الاختلاف في تفاصيل العقيدة أو الفقه فهي تفاصيل لا تؤثر أصلا في إسلام المسلم وإيمانه الأصلي العام. واجهت إيران حصارا متعدد الجوانب سياسيا وإيديولوجيا واقتصاديا وماليا، فقد صنفتها الولاياتالمتحدة دولة مارقة داعمة للإرهاب، وفرضت عليها قانون داماتو. كيف حوّلت إيران هذا الواقع إلى مكاسب سياسية واقتصادية مع تجاوز مرحلة العزلة التي وُضعت فيها؟ إن العقوبات التي ضُربت علينا وفرضت على الثورة كانت غبية وغير صحيحة، لأنها سببت أن تفكر أجنحة النظام والشعب في استخدام قدراتهم الذاتية في البحث عن البدائل واختراق النمطية السياسية والرهان على الحلول الجاهزة. لم يكن أمام النظام الإسلامي إلا أن يفكر في الوقوف على أقدامه، فتفجرت الطاقات، كما أن ثوار الجزائر استطاعوا، بإمكانيات قليلة مقارنة بما كان للاستعمار، أن يصنعوا أعظم ثورة في تاريخ العالم الإسلامي. منذ أول يوم قال الخميني مقولته الشهيرة “لو حاصرتنا أميركا والعالم اقتصاديا، فنحن أبناء شهر رمضان، ولو حاصرتنا سياسيا فنحن أبناء كربلاء”. هنا حدث إعادة فهم القيم الإسلامية على طريقة أخلاقية وحضارية مختلفة عن السابق فتحولت الثورية الشيعية التاريخية إلى ثورة وثروة إنسانية في وجه الطغيان العالمي، وليست مادة في الصراع الداخلي، فقيم الثورة بنيت على فهم مختلف عن الفهم التقليدي المذهبي. قبل الأمس كنت أسمع إلى ذكريات أحد المجاهدين من الثورة الجزائرية المجيدة، وهو الآن في التسعينيات من عمره المبارك، وهو من العلماء العظماء، شرح لي كيف كانت إمكانياتهم في الجهاد ضد الاستعمار، وكيف أنهم بإيمانهم بالله استطاعوا أن يغلبوا التحديات والمصائب، وأنا أقوم بتطبيق ما يقول على ما عانت منه الثورة في إيران من خطط عالمية لإركاعها، ولنكها تمكنت من تجاوزها بتسديد إلهي، إلى أن بقيت قوية ومنتصرة. والآن أيضا سنستمر في رفع كلمة الوحدة الاعتقادية والأخلاقية والسلوكية مع جميع الدول العربية والإسلامية في وجه ما يهددها ويهددنا جميعا، من الاستعمار والاستدمار الثقافي والفكري والفني والمذهبي المتشدد.