أي مسافة تفصل الثورة عن الدولة؟ هل لازالت الثورة الايرانية المتحكم في مسيرة الدولة الايرانية؟ ماذا تبقى من الثورة في دهاليز السياسة ودواليب الحكم؟ ما هو المعيار الذي يحكم للدولة او عليها؟ اين المسموح في حركة الدولة وغير المسموح في عرف الثورة؟ الحصار والحرب الخارجية والداخلية هل حرفت الثورة وغيرت مهمات الدولة؟ أعلن قائد في حرس الثورة الإيراني عن قدرة بلاده على استهداف حاملات الطائرات المعادية بصواريخ أسرع من الصوت، وأن إيران أصبحت الأفضل عالميا في مجال الصواريخ. وقال العميد حسين سلامي: "إن الأعداء ليس لديهم أي تصور واضح عن قدراتنا العلمية"، مشيراً أيضا إلى الإنجازات التي تحققت في مجال التكنولوجيا النووية السلمية والاستفادة منها في تنمية البلاد وتقدمها، وأكد سلامي: "يمكننا أن نستهدف حاملات الطائرات المعادية بسهولة بصواريخنا ذات السرعة ما فوق الصوت، ولدينا تقنية متطورة جدا تثير دهشة الأعداء". وتابع أنه "الآن يمكننا أن ندعي أن أي بلد لم يتوصل إلى تقنية صواريخنا ونحن نعد الأفضل عالميا في هذا المجال." ان هذا مدخل مهم لفتح الملفات الملغمة التي تمسك بها الدولة الايرانية الآن .. والحديث هنا يفرق جيدا بين الثورة الاسلامية في ايران والدولة الايرانية الحالية، فلسلامة الرؤية وصحة التحليل لابد من القول بأن الثورة الاسلامية في ايران انطلقت بجملة افكار وشعارات واهداف وطرحت رؤية للصراع الكوني وحددت خطوطا للاصطفاف السياسي، وحاولت ان تكرس رؤيتها في الواقع.. ولم تكن الثورة الايرانية فقط على النظام الشهنشاهي وفلسفته وارتباطاته السياسية والاقتصادية انما هي ايضا ثورة داخل الفكر الشيعي التقليدي على اكثر من مستوى، بل لعل هذا هو الاساس والاعمق والاخطر، حيث اخرج الامام الخميني الشيعة من الحصار المذهبي الى امة الاسلام بوسعها، رافضا أي حدود طائفية بين السنة والشيعة، معتبرا ان من يثير النعرات المذهبية والتناحر الطائفي انما هو الشيطان واتباعه من المنافقين وتصدى بذلك لتيار "الحُجّتية" الذين يرون في أي تقارب مع المسلمين السنة مضيعة للطائفة والمذهب وتنازلا عن افكارهم وعقائدهم.. طارد الخميني وتلامذته التيار الصفوي واتباعه وتيار "الحجتية" وشيوخها وفيهم مراجع كبار كآية الله شريعتمداري.. كما انه رفض ان يظل الاسلام منشغلا بالحيض والنفاس وامور العبادات وحرر الاسلام من ان يكون مطية للاستعماريين الغربيين ضد الشيوعية او مطية الحكام الظالمين في استعباد الشعوب وأصر ان يكون العالم الفقيه بأحكام الاسلام وبشؤون الدنيا هو الحاكم وولي امر الناس، فأعاد بذلك الشأن كله الى صدر الاسلام متخذا من الخلافة الراشدة مرجعية لتفكيره حول ضرورة الحكم الاسلامي كما جاء في كتابه المتفرد "الحكومة الاسلامية" ملغيا احكام انتظار المهدي كما هو في فكر الشيعة، ومتجاوزا سلبية الفكر السياسي السني في السمع والطاعة للحاكم الطاغي الظالم، كما انه اعتبر وحدة الأمة اساسا وشرطا لصحة الايمان وصدق الانتماء اليه .. وعلى الصعيد السياسي اعتبر ان العدو الاكبر يتمثل في الادارات الامريكية المتلاحقة بالاضافة للادارات الغربية الاستعمارية لما تقترفه من عدوان ضد الامة الاسلامية بحروبها المتواصلة ونهبها ثرواتها.. واعتبر ان اسرائيل غدة سرطانية لابد من اجتثاتها.. واعتبر ان مواجهة المستضعفين في الارض ضد المستكبرين معركته التي لا هوداة فيها .. وخاض معركة المفاهيم السياسية بدقة وقوة وحزم، فتجمعت له منظومة مفاهيمية واضحة تميز بها عمن سواه في جمع العلماء المسلمين.. هذه هي مرجعية الثورة الفكرية والسياسية وهي التي نشأ على ضوئها تيار ثوري سياسي واجتماعي واسع في ايران من مثقفين وعلماء دين كاية الله مطهري وبهشتي وصديقي ومنتظري ومشكيني وعلي شريعتي وعلي خامنئي وعلى رجائي وآخرين كثيرين تميزوا بكل هذه المنظومة الفكرية والمفاهيمية وقادوا حملة واسعة من التثقيف لتصحيح الافكار والمفاهيم، متصدين للطائفية والتخلف والمقولات الفاسدة التي تخرب وحدة المسلمين وافكارهم وتسيء اليهم والى رموزهم.. وتعرض هذا التيار الى عمليات اغتيالات واسعة طالت العشرات من رموزه، وعلى راسهم بهشتي رئيس البرلمان ورجائي رئيس الجمهورية في تفجيرات وقتل بشكل جنوني.. وهكذا تكاملت الثورة برؤية ومعيار محتكمة الى منظومة مفاهيمية مدققة تماما لا تحيد عنها.. فاستدعت بذلك غضب الادارات الامريكية والغربية وغضب الذين يبغونها عوجا وينفذون رغبات الغربيين في بلاد العرب والاسلام. وايران الدولة هي الحكومات المتتالية والسياسة الخارجية والداخلية المتلاحقة ومؤسسات الدولة المتجددة والمتبدلة والمتغيرة.. ايران الدولة اجهزة الامن والحرس الثوري والمصانع والتجارة والاقتصاد.. ايران الدولة العلاقات والمصالح والدور الاقليمي والدولي.. ايران الدولة الحسابات الدقيقة والتخطيط والتحسب والاختراقات والتحالفات وانصاف الحلول احيانا.. ويرى البعض ان ايران الدولة تقع بين المرجعية الفكرية للثورة وبين مصالح الآنية للشعب الايراني والثورة، فهي حسب هؤلاء لم تستطع الالتزام تماما بثوابت المرجعية الفكرية وقدمت تنازلات هنا او هناك لكي تنجو بالثورة وبالشعب من حصار كاد ان يخنق البلد وشعبها ويقضي على المشروع الاسلامي الايراني تماما.. هنا تتضح لنا ملفات كبيرة امام ايران،، وهي ملفات ملغمة ملف العراق وملف سوريا وملف لبنان وملف افغانستان والملف النووي، وعلى الصعيد الداخلي ملف التنمية الاقتصادية والحياة السياسية والتعددية الحزبية والتداول على السلطة والحريات السياسية.. ولابد من توضيح ان التعامل مع هذه الملفات لم يأت في سعة من امر ايران، انما جاء مرفوقا بحصار خانق لايزال معظمه قائما حتى الآن.. حصار شامل في كل المجالات وبحرب مفروضة استمرت أكثر من ثماني سنوات الحقت بإيران خسائر فادحة على كل الاصعدة، كما كانت حرب المنظمات المسلحة المعارضة تطال قيادات كبيرة في الثورة الايرانية.. لقد بلغ الحصار مداه في التأثير في الدولة الوليدة.. الا ان لياقة رجالاتها وتشبثهم بمشروعهم قادهم الى الاستماتة دون سقوطها.. فواجهوا الحرب والحصار ولم يكن سهلا تصور امكانية خروج الدولة الايرانية من هذه المطحنة الرهيبة سالمة.. هنا يصبح الحديث عن تعامل الدولة الايرانية اكثر الى الموضوعية وبعيدا عن القسوة والتنطع.. وعند فتح الملفات نكتشف ان هناك ما يمكن اعتباره التزاما بالثورة وبعضها مايمكن اعتباره التزاما بمصلحة الدولة .. ومما لاشك فيه ان لاقيمة للثورة بدون دولة تحمل مبادئها وتحمي مشروعها.. الا ان هناك خطا دقيقا فاصلا يجعل من الدولة خصما للثورة ان هي تجاوزت مبادئها في الاطر الاستراتيجية من المواقف.. فمثلا الوقوف ضد الكيان الصهيوني مثل معيارا واضحا للسياسة الايرانية في تحالفاتها واصطفافها، وهذا ما يجعلنا نتفهم الموقف الايراني من سوريا وحزب الله عندما كان النظام السوري يدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، لكن من الصعب تفهم تأييد ايران للنظام السوري فيما هو يشتبك بعنف مع قوى معارضة سورية ويقتل بالجملة ويبيد قرى واحياء بكاملها.. ومن المفهوم تماما ان تحاول ايران ازاحة الاحتلال الامريكي من العراق وعدم السماح لتشكل نظام عميل للامريكان لأنه حينذاك سيجدد الحرب على ايران.. ولكن من الصعب تفهم المساعدة الايرانية لقوى ملونة بلون طائفي معين في خضم تنافر طائفي شرعت له الاحزاب الشيعية العراقية الملتبس امرها بعلاقات مع الغرب.. ومن المفهوم بلا شك ان تطرد ايران النفوذ الاسرائيلي من باب المندب والبحر الاحمر، ولكن ليس على حساب التركيب السياسي والاجتماعي في اليمن.. ولكن في كل ماسبق من ملاحظات في الملفات الملغمة مبررات للدولة الايرانية وليس من الضرورة ان تكون في محل الاستحسان لدى المسلمين، لأن الحسابات هنا دقيقة وتحتاج ادراك واحاطة، وهنا تتجلى القضية الفلسطينية وملفها الكبير: اين تقف ايران الثورة والدولة؟ ولعله الملف الوحيد الذي لم يحدث فيه الانفصام ولو جزئيا بين الثورة والدولة، وهو ملف حقيقي لم تقبل فيه ايران أي مساومة، وهذا يكشف جوهر السياسة الايرانية وحقيقتها.. تولانا الله برحمته.