أوضح سعيد خطيبي أنه من المؤسف أن تتحوّل “شائعة” إلى قناعة في عقول البعض، وتُتهم إيزابيل إيبرهارت ب ب “التّخاذل” مع الاستعمار الفرنسي، بسبب تأويل ذاتي لبعض كتاباتها دون قراءة نقدية لها. وقال خطيبي في حوار مع “الخبر” بمناسبة صدور روايته الجديدة، إنه رغم كل ما قامت به في حياتها القصيرة لصالح “الأهالي”، هذه الشّائعة تكاد تختصّ بها إيبرهارت لوحدها، على خلاف كتّاب وفنّانين أوروبيين آخرين، عاشوا بين الأهالي. لماذا عرّجت على شخصيات ثانوية، قبل الوصول لإيزابيل إيبرهارت؟ في “أربعون عاماً في انتظار إيزابيل” الرّاوي يتقاطع مع إيبرهارت في مستويات عدّة، فهو مثلها جاء من أوروبا ليعيش بين الجزائريين، ومثلها اعتنق الإسلام، وجرب حياة تيه، واستقر في واحد من الأمكنة التي استقرت فيها، في جنوب البلاد، هي ارتبطت بطريقة صوفية وهو فعل الشّيء نفسه، هي كتبت عن الحياة في الصّحراء، وهو كان يرسمها. اكتشف اسم وأعمال إيزابيل بعد أكثر من أربعين عاماً من رحيلها المفاجئ، وقضى أربعين عاماً أخرى في الجزائر وهو يبحث عن “حقيقة” إيزابيل إيبرهارت كامرأة وكاتبة. أربعون عاماً قضاها في “محاورات” مع نفسه ومع إرث إيبرهارت. كان من الممكن أن أختار سارداً عادياً آخر، لكني اخترت الطّريق الأكثر تشعباً في الكتابة. ففي سبيل البحث عن “الحقيقة” وفي إعادة تشكيل “البازل”، سيعيد الرّاوي اكتشاف ذاته وتفكيك حوالي نصف قرن من تاريخ الجزائر. في العادة، تكتفي الشّخصية بدور “وسيط” في النصّ، وتتيح للقارئ فرصة الدّخول في تفصيلات الحكاية، والمؤلف هو المطالب بأن يجعل منها “شخصاً” من لحم ودمّ، أن يجعل من الواقع متخيّلاً ومن المتخيّل واقعاً، من أجل “توثيق” التّاريخ أدبياً. وغالباً لا يستطيع الرّوائي أن يمنع نفسه من التورّط، بشكل أو بآخر، مع شخصيته ليكتب عن العالم انطلاقاً من ذاته. كيف تعاملت مع الجدل حول تعاملها مع السّلطات الاستعمارية؟ من المؤسف أن تتحوّل “شائعة” إلى قناعة في عقول البعض، وتُتهم إيزابيل إيبرهارت ب “التّخاذل”؛ بسبب تأويل ذاتي لبعض كتاباتها دون قراءة نقدية لها، رغم كل ما قامت به في حياتها القصيرة لصالح “الأهالي”. هذه “الشّائعة” تكاد تختصّ بها إيبرهارت لوحدها، على خلاف كتّاب وفنّانين أوروبيين آخرين، عاشوا بين الأهالي، مثلاً لم يسبق أن أشاع مؤرخ شيئاً عن الكاتب والفنّان إتيان دينيه (الذي ربطته علاقة وديّة بالحاكم العامّ بدايات القرن)، كما أن هذا الأخير تعرّض مرّة لاعتداء عنيف من طرف الأهالي. ما هو السّبب؟ تقول الرّواية الاستعمارية إن سبب تهجم الأهالي عليه كان لوحاته التي صوّرت نساء عاريات؟! وربما كان السّبب أمرا آخر! في الفترة التي ظهر فيها اسم إيزابيل إيبرهارت (نهاية القرن 19 وبداية القرن 20)، كان الكتّاب الفرنسيون ينظرون إلى “الجزائر” باعتبارها أرضاً مفتوحة ل “الغزو” العسكري والفكري، وهو ما تعكسه كتابات غي دو موباسان مثلاً، كان أدباً كولونيالياً إيكزوتيكياً، “أدب بطاقات بريدية”، يتعامل مع الجزائر كأرض للاكتشاف ويلغي الإنسان الجزائري، على عكس ما قامت به إيبرهارت، التي اهتمت بالإنسان الجزائري، وتركت خلفها كتابات “مستفزّة”. كرّست التجربة “الإيبرهارتية” نموذجاً جديداً حينها، سيسير عليه كتّاب آخرون من بعدها، كما لا ننسى أنها كانت مراسلة لواحدة من ألمع جرائد المرحلة “الأخبار”، التي كان يشرف عليها الكاتب والصّحافي فيكتور باريكان، المعروف عنه مواقفه التّقدمية، ونقده للسياسات الاستعمارية الفرنسية، في شمال إفريقيا، وخصوصاَ دفاعه عن حقوق الأهالي المسلمين في المساواة مع غيرهم. والحقيقة التي تسقط من أعين “المتحاملين على إيبرهارت”؛ أن فيكتور باريكان وإيزابيل كانا محلّ شكوك من طرف الإدارة الاستعمارية (يمكن مراجعة تقارير الشّرطة)، وطُردت إيبرهارت من الجزائر عام 1901 (لسبب غير منطقي، بعد محاولة اغتيالها من طرف شاب من الزّاوية التيجانية - لو كانت فعلاً مقرّبة من الإدارة الاستعمارية لكانت وفّرت لها الحماية)، ولم تعد إليها سوى عام 1902 بعد زواجها من سليمان أهني وحصولها على الجنسية الفرنسية. فإلى غاية سن الخامسة والعشرين لم تكن فرنسية، ولم تكن تحمل هوية فرنسية، وهي التي كانت تصف أوروبا ب “الغرب المُحتل” وتيهها في الصّحراء كان – ضمنياً – بيان احتجاج ضدّ ما فعله مواطنوها الأوربيون من فظاعات، سنوات الاحتلال. لماذا اتّجهت صوب الشّرق، وليس الغرب، مثلما هو معمول به، بحثا عن شخصية روائية؟ إذا كان المقصود من الشّرق: الجزائر، باعتقادي أن الجزائر لا هي شرق (بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة) ولا هي غرب فعلاً، هي وسط، منطقة رمادية، يتقاطع فيها الشّرق والغرب في آن. ثم إن فكرة الكتابة عن إيبرهارت ظلّت تفرض نفسها عليّ منذ سنوات (هي جزء من المرويّات الشّفوية التي يتوارثها كبار السنّ في المدينة التي وُلدت وكبرت فيها)، لكن الأمر لم يكن سهلاً، فهو مشروع تطلّب بحثاً وتدقيقاً في كتاباتها، مُساءلة للأمكنة والفضاءات التي عاشت وكتبت فيها، خصوصاً مثلث: بوسعادة، وادي سوف وعين الصّفراء، للإحاطة بجوانب حميمة من حياتها، قبل الكتابة عنها، وإعادة بعثها روائياً. نعرف أن أعمال إيبرهارت لم تنشر سوى بعد وفاتها (عدا بعض القصص والمقالات التي نشرت في جرائد)، فقد استخرجت كرساتها ومخطوطاتها من الوحل، بعد وفاتها في فيضان وادي عين الصّفراء، وقبل نشرها تعرّضت لبعض التّعديلات (أو التّشويه)، مع تصحيح أجزاء منها، أو حذف وإضافة كلام لما كتبت، ومن الصّعب الآن الوصول إلى النّسخ الأصلية، وتطلّب الأمر مطابقة طبعات مختلفة من أعمالها، كما إنها بداية من عام 1906، ثم في فترة ما بين الحربين، أُحيط اسمها بهالة من “المديح” من كتّاب ونقّاد فرنسيين، لهذا توجّبت الكتابة عنها وتخليصها من المديح المجاني، من معجبين “رديئين” أحياناً، ثم الكتابة عنها بحياد، عن أفعالها الإيجابية وأخطائها أيضاً، بعيداً عن “التّقديس”، والحفر بهدوء في طبيعة علاقاتها الحقيقية بالجزائر، وحياتها في الإسلام، عن عمق صلاتها ببعض الأشخاص الذين رافقتهم في سنواتها الجزائرية المشتتة، لرسم بورتري شبه كامل عن شابة فعلت الكثير وهي لم تتجاوز سنّ السّابعة والعشرين. من مِن كتّاب القرن التّاسع عشر قام بما قامت به إيبرهارت؟! كانت وحيدة واستثنائية في تشرّدها، وصبرها و«قطيعتها” مع جيلها ومع من سبقوها، وفي رغبتها في تحرير الأهالي من الأكليشيهات التي كرّسها كتّاب ما بين 1830 و1900.